مفاهيم الجودة من منظور إسلامي
إن أعظم ما يميز ديننا الإسلامي الحنيف أنه دين رباني كامل صالح لهداية البشرية على مر العصور والأزمان إضافة إلى شموليته لكافة شؤون الحياة قال تعالى (وَنَـزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ ) ( النحل : 89) ، ولهذا تميز الفكر الإداري الإسلامي عن غيره من الأنظمة الوضعية باستناده إلى القرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة بما يحملانه من ثوابت، ومن حسن الربط بين الدين والدنيا، من خلال تأكيده على أهمية العمل وتجويده في حياة المسلم وفقاً لأعلى معايير الدقة والإتقان تطبيقا لتعاليم ديننا الحنيف الذي يحث على إتقان العمل وجودته تحقيقاً لأعلى درجات العلاقة مع الله تبارك وتعالى ألا وهي الإحسان ( أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك ) وهذه العلاقة لو وضعها كل واحد منا نصب عينه والتزم بتطبيقها لما احتاج الناس إلى البحث عن أنظمة مراقبة تحفظ أموالهم وأعراضهم لان هذه العلاقة وصلت بالمجتمع إلى أعلى درجات الإتقان والكمال كما في عهد عمر بن عبد العزيز .
وقد أصّل الدين الإسلامي لمعنى وقيمة الإتقان أو الإحسان وهي ( فكر الجودة ) فالمسلم في جميع أعماله الدينية والدنيوية مطالب ليس لمجرد الانصياع والقيام بالعمل فحسب ، بل يتعداه إلى العمل المتقن قال تعالى { صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ } ( النحل : 88) ولهذا فإن رؤية إدارة الجودة الشاملة يعزز من قيمة هذا النظام ويزيد من فرص تطبيقه في المجتمعات الإسلامية . كما سبق لسلفنا الصالح تطبيقه في كثير من المجالات الدينية والدنيوية .
وحري بالمسلم أن يتمثل في سلوكه الديني وحياته العملية بعض المفاهيم المتعلقة بالجودة الشاملة ومنها :
* مفهوم الإحسان :
يقول الله عز وجل : ( الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ ) ( الملك : 02)
والإحسان هنا إتقان العمل ليصبح على أكمل وجه فالعبادة لله يجب على المسلم أن يؤدي عبادته كأنه يرى الله أو كأن الله يراه. وإن كان العمل خاص بالناس وجب تأديته على أكمل وجه وكأن صاحب العمل موجود يتابعه وهذا ينطبق مع مفهوم التحسين المستمر للأداء في إدارة الجودة الشاملة.
* مفهوم الإتقان :
يقول الله عز وجل : { صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ } ( النحل : 88)
ومعناه الإتيان بالعمل على أكمل وجه وبدون قصور فيه محتسباً بذلك الأجر والثواب الأمر الذي يؤدي إلى الطواعية في قيام الأعمال وهذا من الدلالات التي تقوي تفعيل مفهوم الجودة والتميز داخل المنظمات وخاصة الخيرية .
* مفهوم العمل الجماعي والتعاون :
يقول الله عز وجل : ( وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ) ( المائدة : 02)
وهذا المنهج الإسلامي يحث على العمل الجماعي فنجد أن جميع العبادات تجمع بين التكليف الفردي والأداء الجماعي، وتؤدي إلى تنمية روح الجماعة ولا شك أن هذا يتطابق مع مبدأ مشاركة العاملين في إدارة الجودة الشاملة، وضرورة العمل بروح الفريق الواحد المبني على التعاون لتحقيق أهداف العمل المنشودة .
* مفهوم الأحكام:
يقول الله تعالى :{ ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ ) ( الجاثية : 18)
فالأحكام هي ميزان جودة الأعمال في ظاهرها، ومعيار جودة الأداء وإتقان الممارسة.وهذا يمثل مبدأ التطابق مع المعايير والمقاييس الموضوعة في نظام إدارة الجودة الشاملة، بهدف البعد عن التخبط والعشوائية والارتجال.
* مفهوم الرقابة :
قال تعالى {إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً} ( النساء : 1)
إن مبدأ الرقابة في حياة المسلم سواء أكانت داخلية أو خارجية تكون للتأكد من تحقيق الأهداف الموضوعة بصورة دقيقة وفقاً للمقاييس والمعايير والضوابط الشرعية. وهذا يتفق مع مبدأ رقابة الجودة في نظام إدارة الجودة الشاملة.
* مفهوم الشعور بالمسؤولية :
قال تعالى {كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ } (المدثر: 38)
وهذا يولد لدى المسلم شعور بالمسؤولية الكاملة تجاه جميع أعماله وأقواله وجوارحه، كما قال تعالى: { إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولا ) ( الإسراء : 36) ، وقد بين أحد المفكرين بأنه تتسع دائرة الشعور بالمسؤولية لدى المسلم من الدائرة الفردية الخاصة بتكميل نفسه إلى الدائرة الأسرية إلى دائرة المجتمع إلى دائرة الأمة ويتناسب شعوره بالمسؤولية تناسباً طردياً مع ما أُوتي من قوة أو ثروة أو سلطة” ، وتطبيق الأفراد لهذا المفهوم من أكبر دعائم نجاح إدارة الجودة الشاملة والذي يتفق في أن الجودة الشاملة مسؤولية جميع العاملين.
* مفهوم الشورى:
قال تعالى : {وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ} ( الشورى:38) وقوله (وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ) (آل عمران: 159)
فقد دعا الإسلام إلى الالتزام بمبدأ الشورى من خلال تشاور الأفراد في اتخاذ القرارات وحل المشكلات ليستخرج من هذا التشاور أفضل الآراء وأجودها وهذا المبدأ الإسلامي يتفق مع المشاركة في اتخاذ القرار وحل المشكلات في إدارة الجودة الشاملة.
* مفهوم الوقت :
إن من أهم المبادئ الإسلامية هي الحث على استغلال الأوقات ، وقضائها فيما يفيد في الدنيا والآخرة قال الرسول صلى الله عليه وسلم : لا تزول قدم ابن آدم يوم القيامة من عند ربه حتى يسأل عن خمس : عن عمره فيم أفناه ، وعن شبابه فيما أبلاه ، وعن ماله من أين اكتسبه وفيم أنفقه ، وماذا عمل فيما علم ) صحيح الترمذي : 2416 ، فتنظيم الوقت وحسن إدارته واستغلاله من أهم عوامل نجاح إدارة الجودة الشاملة.
وبطبيعة الحال فإنه لا مجال للمقارنة بين المنهج الرباني والمنهج البشري ، فان المقارنة هي للتأكيد على حقيقة مهمة مفادها: أن المنهج الإداري في الإسلام هو المعيار والنموذج الأمثل للاقتداء به ، كما أن هناك حقيقتين لا بد من التأكيد عليهما :
الأولى : أن نموذجية النظام الإسلامي لا تلغي أو تقلل من قيمة النشاط البشري وما يتضمنه من نظريات إدارية ما دامت لا تقدح في المنهج الإسلامي أو تتعارض مع أصوله ومبادئه وقيمه، فقد أثرت هذه النظم والنظريات الفكر الإنساني بإبداعات ونماذج وطرائق تطبيقية.
الثانية: أن المنهج الإسلامي يتميز بالثبات في الأصول والمبادئ والقيم ويتميز في نفس الوقت بالمرونة والانفتاح على النظم والنظريات الأخرى قديمها و حديثها للانتفاع بما توصلت إليه .
وآخيراً فإن ديننا الحنيف يبن لنا نماذج تطبيقية ( كالصلاة ، الصيام .. ) تُدلل على عمق هذه المفاهيم في جميع عبادتنا وما تشمله من أركان وشروط وواجبات تتطلب الالتزام بها حتى تتحقق الغاية وهي رضى الله عز وجل، وهذا ما تتبناه مفاهيم إدارة الجودة الشاملة بالفكر الاداري المعاصر في العمل على تحقيق رغبات العميل .
وصلى الله وسلم على أشرف الأنبياء والمرسلين سيدنا محمد وعلى آلة وصحبه أجمعين .