اكدت اللجنة الدولية للصليب الاحمر امس الاثنين انه بعد ستة اشهر من انتهاء العمليات العسكرية الاسرائيلية في غزة، لا يزال ابناء الشعب الفلسطيني هناك يعانون من عدم قدرتهم على اعادة بناء حياتهم وينغمسون اكثر في حالة من اليأس.
وافادت اللجنة في تقرير لها انه لم يبق للمدنيين مكان آمن في غزة أثناء العملية العسكرية التي استمرت 22 يوماً. غصّت المستشفيات بالمصابين, بما فيهم الأطفال الصغار والنساء وكبار السن. لقد أبدى الطاقم الطبي شجاعة وعزيمة نادرتين، إذ عمل على مدار الساعة لإنقاذ الأرواح في ظروف صعبة للغاية. وفي تلك الأثناء أطلقت قذائف من غزة يومياً مما عرض آلاف السكان في جنوب إسرائيل للخطر, فقدمت الطواقم الطبية الرعاية للسكان المصابين بالصدمة وعالجت الجرحى وقامت بإجلائهم.
وشهد الكثير من الأطفال أعمال العنف خلال العملية العسكرية. وشاعت بينهم حالات التبول اللإرادي والأرق والسلوك التهيجي, وبات آلاف الأطفال والبالغين بحاجة إلى الاستشارة الطبية لمعالجة الآثار النفسية والضغط الناجم عن الصدمة، فقد الكثير من أهالي غزة إما طفلاً أو أباً أو قريباً آخر أو صديقاً. كما أدت العملية العسكرية الإسرائيلية إلى تدمير آلاف البيوت جزئياً أو كلياً محولة أحياء كاملة إلى أنقاض. كذلك ألحق القصف أضراراً بالمدارس ورياض الأطفال ومراكز الإطفاء والإسعاف.
انقطع هذا القطاع الساحلي الصغير عن العالم الخارجي، وحتى قبل العمليات العدائية الأخيرة كانت السلطات الإسرائيلية قد فرضت قيوداً صارمة على حركة الناس والسلع, خاصة منذ شهر تشرين الأول/أكتوبر 2007, مما أدى إلى تفاقم الفقر وارتفاع البطالة وتدهور الخدمات العامة المتعلقة بالرعاية الصحية والماء والصرف الصحي.
كما تضرر تقديم الخدمات الأساسية جراء قلة التعاون بين السلطة الوطنية الفلسطينية في رام الله وإدارة حماس في غزة. ونتيجة لذلك كان أهالي غزة يواجهون أصلاً أزمة خانقة أثرت على جميع نواحي الحياة اليومية عندما احتدمت العمليات العدائية في أواخر كانون الأول/ديسمبر.
واشار التقرير الى انه بعد انقضاء ستة أشهر, مازال يستحيل على سكان غزة إعادة بناء حياتهم بسبب القيود المفروضة على الواردات. فكميات السلع التي تدخل غزة حالياً هي أدنى بكثير مما هو مطلوب لسد احتياجات السكان. في أيار/مايو 2009 لم تدخل غزة سوى 2,662 شحنة من السلع، مما سجل انخفاضاً بنسبة تناهز 80% مقارنة مع 11,392 شحنة سُمح بدخولها في نيسان/أبريل 2007, قبل اعتلاء حماس السلطة في القطاع.
واضاف ان الكثير من الأطفال شهدوا أعمال العنف خلال العملية العسكرية. شاعت حالات التبول غير الإرادي والأرق والسلوك التهيجي. وبات آلاف الأطفال والبالغين بحاجة للاستشارة الطبية لمعالجة الآثار النفسية والضغط الناجم عن الصدمة.
إعادة الإعمار غير مسموح به والصحة العامة في خطر:
اوضح التقرير انه ستظل أحياء غزة المتضررة بشدة جراء الضربات الإسرائيلية تشبه مركزاً سطحياً لزلزال عنيف ما لم يسمح بإدخال كميات هائلة من الإسمنت والحديد ومواد البناء الأخرى إلى القطاع لإعادة الإعمار إلى أن يتحقق ذلك ستضطر آلاف العائلات التي فقدت كل شيء إلى العيش في الضيق مع الأقرباء، فيما ستواصل عائلات أخرى العيش في الخيام لأنها لا تملك مكاناً آخر تذهب إليه.
مكّنت أعمال الإصلاح التي أنجزت على عجل بعد العملية العسكرية من إعادة خدمات الماء والصرف الصحي إلى ما كانت عليه, ولكن فقط إلى المستوى غير الكافي أصلاً الذي كانت عليه قبل كانون الأول/ديسمبر 2008. فالبنية التحتية تتحمل ما لا طاقة لها به وبالتالي فهي عرضة للانهيار. وبالرغم من استخدام مادة الكلور لتنقية المياه, إلا أن خطر تسرب مياه المجاري والنفايات الأخرى إلى شبكة الإمدادات المائية يشكل تهديداً رئيسياً على الصحة العامة.
يجري كل يوم ضخ 69 مليون لتر من النفايات المعالجة جزئياً أو غير المعالجة بتاتاً إلى البحر الأبيض المتوسط مباشرة نظراً لعدم القدرة على معالجتها. تعادل هذه الكمية من النفايات حجم 28 مسبحاً أولمبياً.
تنقطع المياه عن عشرات الآلاف من الناس عندما تنهار آبار المياه التابعة لبلدية غزة, ويحدث هذا بشكل متكرر نظراً لقلة الإمدادات من حيث أنابيب المياه الجديدة وقطع الغيار الكهربائية والمضخات ومحوِّلات التيار الكهربائي.
وجدت اللجنة الدولية للصليب الأحمر أحياناً طرقاً لإصلاح البنية التحتية دون الاعتماد على الواردات. فاستخدمت على سبيل المثال مواد جرى إعادة استعمالها (بما في ذلك أنابيب المياه المستخدمة وقطع الإسمنت من جدار رفح الحدودي الذي دمر في كانون الثاني/يناير 2008), وذلك لترميم إحدى محطات معالجة مياه الصرف الصحي التي يستفيد من خدماتها 175,000 شخص في رفح.
لكن هذا وحده لا يكفي. فثمة حاجة ماسة لإصلاحات أخرى ومشاريع لإعادة الإعمار بغية منع زيادة تدهور شبكة الإمداد بالمياه والصيانة الضرورية ووقف تدهور أوضاع شبكة المياه والصرف الصحي عبر أنحاء قطاع غزة. وإذا حدث أن انهارت خدمات المياه والصرف الصحي في أية لحظة فإن ذلك يثير شبح وقوع أزمة كبيرة في الصحة العامة.
إن الوسيلة الوحيدة لمعالجة هذه الأزمة هي رفع القيود المفروضة على استيراد قطع الغيار وأنابيب المياه ومواد البناء مثل الإسمنت والحديد كي يتسنى إعادة بناء المنازل وصيانة البنية التحتية الحيوية وتحسينها.
قلة الرعاية الصحية:
إن نظام الرعاية الصحية في غزة لا يمكن أن يوفر العلاج الذي يحتاجه مرضى كثيرون يعانون من أمراض خطيرة. وتكمن المأساة في عدم السماح للكثيرين منهم بمغادرة القطاع في الوقت المناسب لتلقي العلاج في مكان آخر. وغالباً ما يتم تسييس مشاكل الصحة في غزة فيجد المرضى أنفسهم حبيسي المتاهات البيروقراطية. إن إجراءات طلب الحصول على تصريح لمغادرة القطاع معقدة وتستوجب موافقة السلطات الفلسطينية والإسرائيلية معاً. ويضطر المرضى في حالات خطيرة إلى الانتظار أحياناً أشهراً عديدة قبل أن تسمح لهم السلطات المختصة بمغادرة قطاع غزة.
لكن, وحتى عندما يحصل المرضى على التصريحات اللازمة للمغادرة, يكون المرور من معبر "إيريز" للدخول إلى إسرائيل شاقاً. فالمرضى الذين يستعينون بأجهزة طبية للبقاء على قيد الحياة, يجري إنزالهم من سيارات الإسعاف وحملهم على نقالات مسافة تتراوح بين 60 و 80 متراً مروراً من المعبر إلى سيارات الإسعاف التي تنتظرهم على الجانب الآخر. أما المرضى القادرون على المشي دون مساعدة, فقد يخضعون لاستجواب مطول قبل السماح لهم بالمرور من المعبر قصد العلاج الطبي, أو منعهم من دخول إسرائيل ثم العودة إلى حيث أتوا, وهذا ما يحدث أحياناً.
غسان من مدينة غزة, في الرابعة عشرة من عمره, جرح خلال العملية العسكرية وقتل شقيقه الأكبر, وينتظر تركيب طرفين اصطناعيين لساقيه. إن شح الأدوية اللازمة مشكلة دائمة في مستشفيات وعيادات الصحة في غزة, التي تعتمد على إمدادات آنية ومؤكدة للأدوية من وزارة الصحة التابعة للسلطة الفلسطينية بالضفة الغربية, لكن سلسلة الإمداد تنهار في غالب الأحيان. فالتعاون بين السلطات الصحية في الضفة الغربية وغزة صعب. كذلك تعوق إجراءات الاستيراد الإسرائيلية المعقدة, والتي تستغرق وقتاً طويلاً, الإمداد المؤكد حتى بالمستلزمات الأساسية مثل مسكنات الألم ومظهِّرات أفلام الأشعة السينية. ونتيجة لذلك لا يحصل بعض المرضى, وحتى المصابين منهم بالسرطان أو بعجز كلوي, على الأدوية الضرورية التي يحتاجونها.
علاوة على هذا, هناك ما بين 100 إلى 150 شخص ممن فقدوا أطرافاً في العملية العسكرية الأخيرة ينتظرون تركيب أطراف اصطناعية لهم. يعد مركز الأطراف الاصطناعية وشلل الأطفال الذي تدعمه اللجنة الدولية المركز الوحيد للتأهيل الجسماني في غزة, والذي يستطيع, بشكل مناسب, توفير التأهيل والأدوات المصنوعة بطريقة مهنية بحيث تنسجم مع متطلباتهم. وبما أنه المركز الوحيد لتركيب الأطراف في قطاع غزة, كان عليه تلبية جميع طلبات الأطراف الاصطناعية. بيد أن استيراد المواد والمكونات الخاصة بتقويم العظام مازال عملية صعبة تستغرق وقتاً طويلاً.
توقفت مستشفيات غزة عن العمل, والكثير من المعدات غير صالحة وبحاجة للإصلاح. أما الإجراءات المعقدة للحصول على موافقة لاستيراد قطع الغيار, فتجعل من الصعب إدخال وصيانة معدات المستشفيات دون تأخير, مثل آلات التصوير الطبقي وقطع الغيار, وحتى آلات الغسيل في المستشفيات. اضطرت اللجنة الدولية إلى الانتظار مدة خمسة أشهر حتى تتمكن من استيراد أجهزة طبية لغرف العمليات كأجهزة تثبيت العظام.
مازالت حالات انقطاع التيار الكهربائي وعدم انتظام قوته تلحق الضرر بالمعدات الطبية, فتضطر معظم المستشفيات إلى الاعتماد على المولدات الكهربائية ساعات عديدة في اليوم, ولكنه ليس من المؤكد أبداً الحصول على ما يكفي من الوقود لتشغيلها.
يجب السماح للمرضى بالمرور السريع والآمن إلى خارج قطاع غزة لتلقي الرعاية الطبية الملائمة التي لا يستطيعون الحصول عليها داخل القطاع. كما يجب السماح للمستلزمات الطبية والأدوية الضرورية والمواد المستخدمة مرة واحدة وقطع الغيار بدخول قطاع غزة دون تأخير وبالكميات الكافية بغية تأمين خدمات الصحة الأساسية للسكان.
اقتصاد مختنق:
بين التقرير ان إحدى العواقب الأكثر خطورة الناجمة عن الإغلاق هي ارتفاع نسبة البطالة التي بلغت 44% في نيسان/أبريل 2009, حسب تقرير غرفة التجارة في غزة. أدت القيود المفروضة على عمليات الاستيراد والتصدير منذ حزيران/يونيو 2007 إلى توقف 96% من الإنتاج الصناعي في غزة وفقدان قرابة 70,000 وظيفة. وكان لها أيضاً أثر شديد على القدرة على تصدير المنتوجات إلى إسرائيل والضفة الغربية, وهو أمر أصبح شبه مستحيل.
لا تمثل الأنفاق تحت الحدود بين مصر وغزة بديلاً للنمو الاقتصادي, كما أنها لا تؤمن الإمداد الكافي من السلع التي بمقدور السكان شراؤها.
لقد أدى انهيار الاقتصاد في غزة إلى زيادة الفقر بشكل كبير. وأظهرت دراسة أجرتها اللجنة الدولية على أرباب العائلات في أيار/مايو 2008 أن أكثر من 70% منهم كانوا حتى ذلك الحين يعيشون تحت خط الفقر, إذ بلغ دخلهم الشهري أقل من 250 دولاراً أمريكياً للأسرة الواحدة المؤلفة من 7 إلى 9 أفراد (دولار للفرد الواحد في اليوم عدا المساعدات الإنسانية التي قد يتسلمها). كما يعاني من الفقر المدقع 40% من عائلات غزة التي يقل دخلها الشهري عن 120 دولاراً (نصف دولار للفرد الواحد في اليوم). عادة, يتعين على كل فرد يعمل, سواء في القطاع العام أو الخاص, إعالة أسرته المكونة من 6 إلى 7 أنفار وإعانة بضعة أفراد من عائلته الموسعة.
لقد أدى الفقر المتزايد إلى عواقب وخيمة على النظام الغذائي للسكان. فاضطر العديد من العائلات إلى تخفيض نفقاتها المنزلية إلى مستويات تبقيهم على قيد الحياة. يحصل الناس عامة على الوحدات الحرارية التي يحتاجونها, لكن القلائل فقط هم القادرون على اقتناء غذاء صحي ومتوازن. تستبدل العائلات الفقيرة في معظم الأحيان الفواكه والخضراوات واللحم والسمك بالمواد الغذائية الرخيصة كالحبوب والسكر والزيت. ونتيجة لذلك أصبح عشرات الآلاف من الأطفال يعانون من نقص في الحديد وفيتامين a وd, وقد يؤدي هذا إلى توقف نمو العظام والأسنان وضعف المقاومة ضد الأمراض المعدية والإرهاق وتدني القدرة على التعلُّم.
استنفد معظم الأهالي الأشد فقراً وسائل مواجهة الوضع, ولم يبق للكثير منهم أية مدخرات. باعوا ممتلكاتهم الخاصة كالمجوهرات والأثاث وبدأوا يبيعون مصادر الإنتاج كالمواشي أو قوارب الصيد أو سيارات الأجرة. ليس في مقدورهم تخفيض الإنفاق على الغذاء. وسوف تؤثر المستويات المعيشية المتدهورة على صحة السكان وحالهم على المدى البعيد. ومن المرجح أن يكون الأطفال هم الأكثر تضرراً حيث يشكلون أكثر من نصف عدد سكان غزة.
يرتبط الفقر المنذر بالخطر في غزة ارتباطاً مباشراً بالإغلاق المحكم المفروض على القطاع. يجب إعادة الصناعة المحلية وغيرها من القطاعات التجارية إلى سابق عهدها ويجب السماح باستيراد المواد الأساسية وتصدير المنتجات. ولكن ذلك يتطلب وقتاً طويلاً. لقد وصلت الأزمة من الحدة والتأصل درجة يستغرق معها الانتعاش الاقتصادي سنوات طويلة حتى وإن تم فتح جميع المعابر غداً.
العمل الزراعي في مناطق الخطر:
اوضح التقرير ان الإغلاق الحق أيضاً أضراراً بالغة بعائلات المزارعين التي تشكل أكثر من ربع عدد سكان غزة. صادرات الفريز (الفراولة) والطماطم الصغيرة والورود, التي شكلت مصدراً مهماً للدخل, توقفت تماماً. كما انخفض دخل الكثير من المزارعين إلى النصف نظراً للصعوبات التي يلاقونها في بيع كامل محصولهم الزراعي داخل غزة. وحتى إذا أفلحوا في ذلك, فإن السعر الذي يحصلون عليه ليس إلا جزءاً مما قد يكسبون عادة من خلال تصدير محصولهم إلى إسرائيل وأوروبا.
أثناء العملية العسكرية الأخيرة اقتلع الجيش الإسرائيلي الآلاف من أشجار الليمون والزيتون والنخيل, بما في ذلك أشجار في عمق قطاع غزة. كما دمر الجيش شبكات الري والآبار والدفيئات.
واضاف التقرير ان الكثير من المزارعين يمنع فعلاً من الوصول إلى أجزاء من أراضيهم بسبب "المنطقة المحظورة" التي فرضتها إسرائيل على أراضي غزة الواقعة على الجانب الحدودي مع إسرائيل. يتواجد ما لا يقل عن 30% من الأراضي الصالحة للزراعة في غزة داخل هذه المنطقة العازلة, التي تمتد أحياناً إلى كيلومتر واحد من الحاجز. لا يعرف المزارع على الإطلاق ما إذا كان العمل في أرضه أو جني محاصيلها آمناً داخل هذه المنطقة. يعرّض المزارعون أنفسهم لخطر إطلاق النار عليهم عند الاعتناء بأراضيهم كما أن توغلات الجيش غالباً ما تتلف الحقول وأجزاء من المحاصيل الزراعية.
من الصعب النهوض بالإنتاج الزراعي وإنعاشه من جديد ليس فقط بسبب الدمار الذي لحق به, ولكن أيضاً بسبب عدم سماح إسرائيل باستيراد الأسمدة الملائمة وصعوبة أو حتى استحالة العثور على أنواع عديدة من البذور في غزة.
كذلك تضرر قطاع الصيد بشدة جراء القيود التي تفرضها إسرائيل على حرية الحركة. ففي كانون الثاني/يناير الماضي تقلصت المنطقة البحرية التي تسمح فيها إسرائيل بالصيد من ستة إلى ثلاثة أميال بحرية من ساحل غزة, مما أدى إلى انخفاض كمية الأسماك التي يتأتى صيدها, وبالتالي إلى قلة هذا الغذاء الغني بالبروتينات. فالأسماك الكبيرة والسردين التي كانت تشكل حوالي 70% من الصيد قبل 2007, تتواجد فقط خارج منطقة الأميال البحرية الثلاثة.
من الضروري اتخاذ خطوات عاجلة للسماح للمزارعين باستئناف عملهم بأمان, كما ينبغي السماح بدخول الأسمدة وقطع الغيار للآليات والأغطية البلاستيكية للدفيئات والعلف إلى قطاع غزة بكميات كافية لضمان بيعها بأسعار في متناول المزارعين. وفي الوقت نفسه يجب السماح للمزارعين باستئناف تصدير منتجاتهم لكسب الرزق المناسب. كما يجب إلغاء القيود التي فرضت على الصيد مؤخراً.
محاصرون:
اشار التقرير الى انه لم يتبق لأهالي غزة سوى فرصة ضئيلة للاتصال مع أقربائهم في الخارج أو مواصلة التعليم أو التدريب المهني بعد أن أغلقت إسرائيل المعابر وتنطبق القيود المفروضة على مغادرة قطاع غزة ودخوله أيضاً على الموظفين الفلسطينيين العاملين مع المنظمات الدولية كاللجنة الدولية للصليب الأحمر. ولزيادة الأمر سوءاً, فإنه نادراً ما يسمح باستعمال معبر رفح على الحدود المصرية.
ويظهر الأثر النفسي خاصة على الأسر التي يرزح أقرباؤهم في السجون داخل إسرائيل. ففي حزيران/يونيو 2007, أوقفت إسرائيل برنامج الزيارات التابع للجنة الدولية والذي مكّن 900 أسرة في القطاع من زيارة أقربائها المعتقلين. ونتيجة لذلك فقد الكثير من الأطفال الوسيلة الوحيدة المتبقية لهم للتواصل مع أب أو أم أو قريب. لذلك يجب السماح لهذه العائلات باستئناف الزيارات إلى أقربائهم المحتجزين في أماكن الاعتقال الإسرائيلية.
أما طلاب الجامعات الذين يحصلون على منح للدراسة في الخارج فلا يسمح لهم بمغادرة غزة في معظم الحالات. والطلاب, الذين لا يستطيعون المغادرة, يجدون أنفسهم أمام خيارات محدودة لمواصلة التعليم داخل هذا الجيب الساحلي. غالباً ما يمنع أساتذة الجامعات والمدرسون وموظفو الصحة من المشاركة في الدورات التدريبية والندوات التي تعقد في الخارج والتي من شأنها أن تساعدهم على صقل مهاراتهم وخبرتهم.
كسر دائرة اليأس والعوز:
بين التقرير وقع خلال العامين الماضيين 1,5 مليون فلسطيني يعيشون في قطاع غزة في أتون دائرة لا متناهية من الحرمان والفقر نتيجة النزاع, ولا سميا كنتيجة مباشرة لإغلاق المعابر.
وشددت اللجنة الدولية مراراً على أن حق إسرائيل في اتخاذ التدابير للحفاظ على أمنها ينبغي أن يكون متوازنا مع حق سكان غزة في حياة طبيعية وكريمة. يفرض القانون الدولي الإنساني على إسرائيل واجب ضمان تلبية احتياجات السكان الأساسية من حيث الغذاء والمأوى والماء والإمدادات الطبية.
وطالبت اللجنة الدولية للصليب الأحمر مرة أخرى برفع القيود المفروضة على تنقل الأشخاص والسلع كإجراء أول وأكثر إلحاحاً لفك عزلة غزة والسماح لأهاليها بإعادة بناء حياتهم.
وبينت انه إذا لم يتسنَّ استيراد مواد البناء والمستلزمات الضرورية الأخرى إلى قطاع غزة, فإن مبلغ 4,5 ملياردولار التي وعدت بها الدول المانحة لإعادة الإعمار في قمة دولية عقدت في مصر في آذار/مارس 2009, لن يجدي نفعاً.
ومهما كان الأمر, فإن إعادة الإعمار وحده لا يوفر وسائل طويلة الأمد لمساعدة غزة على الانتعاش. من غير المقبول الرجوع إلى وضع ما قبل العملية العسكرية الأخيرة, لأن ذلك لن يساهم إلا في إطالة محنة غزة.
ودعت اللجنة الى تغييرات أساسية في سياسة إسرائيل, مثل السماح بالصادرات والواردات من وإلى غزة, مما يزيد من تدفق السلع ويسهل حركة السكان إلى المستوى الذي كانت عليه في شهر أيار/مايو 2007, ويسمح للمزارعين بالوصول إلى أراضيهم في المنطقة العازلة ويمكّن الصيادين من العودة إلى مياه أكثر عمقاً.
واكدت انه لا يمكن للعمل الإنساني أن يحل مكان الخطوات السياسية الجديرة بالثقة واللازمة لإحداث هذه التغييرات. إن العملية السياسية الصادقة والشجاعة بمشاركة كل الدول والسلطات السياسية والجماعات المسلحة المنظمة المعنية هي وحدها التي يمكن أن تخفف محنة غزة وتستعيد الحياة الكريمة لأهاليها. وإلا فإن البديل سيكون المزيد من الانزلاق نحو البؤس يوماً عن يوم.
وافادت اللجنة في تقرير لها انه لم يبق للمدنيين مكان آمن في غزة أثناء العملية العسكرية التي استمرت 22 يوماً. غصّت المستشفيات بالمصابين, بما فيهم الأطفال الصغار والنساء وكبار السن. لقد أبدى الطاقم الطبي شجاعة وعزيمة نادرتين، إذ عمل على مدار الساعة لإنقاذ الأرواح في ظروف صعبة للغاية. وفي تلك الأثناء أطلقت قذائف من غزة يومياً مما عرض آلاف السكان في جنوب إسرائيل للخطر, فقدمت الطواقم الطبية الرعاية للسكان المصابين بالصدمة وعالجت الجرحى وقامت بإجلائهم.
وشهد الكثير من الأطفال أعمال العنف خلال العملية العسكرية. وشاعت بينهم حالات التبول اللإرادي والأرق والسلوك التهيجي, وبات آلاف الأطفال والبالغين بحاجة إلى الاستشارة الطبية لمعالجة الآثار النفسية والضغط الناجم عن الصدمة، فقد الكثير من أهالي غزة إما طفلاً أو أباً أو قريباً آخر أو صديقاً. كما أدت العملية العسكرية الإسرائيلية إلى تدمير آلاف البيوت جزئياً أو كلياً محولة أحياء كاملة إلى أنقاض. كذلك ألحق القصف أضراراً بالمدارس ورياض الأطفال ومراكز الإطفاء والإسعاف.
انقطع هذا القطاع الساحلي الصغير عن العالم الخارجي، وحتى قبل العمليات العدائية الأخيرة كانت السلطات الإسرائيلية قد فرضت قيوداً صارمة على حركة الناس والسلع, خاصة منذ شهر تشرين الأول/أكتوبر 2007, مما أدى إلى تفاقم الفقر وارتفاع البطالة وتدهور الخدمات العامة المتعلقة بالرعاية الصحية والماء والصرف الصحي.
كما تضرر تقديم الخدمات الأساسية جراء قلة التعاون بين السلطة الوطنية الفلسطينية في رام الله وإدارة حماس في غزة. ونتيجة لذلك كان أهالي غزة يواجهون أصلاً أزمة خانقة أثرت على جميع نواحي الحياة اليومية عندما احتدمت العمليات العدائية في أواخر كانون الأول/ديسمبر.
واشار التقرير الى انه بعد انقضاء ستة أشهر, مازال يستحيل على سكان غزة إعادة بناء حياتهم بسبب القيود المفروضة على الواردات. فكميات السلع التي تدخل غزة حالياً هي أدنى بكثير مما هو مطلوب لسد احتياجات السكان. في أيار/مايو 2009 لم تدخل غزة سوى 2,662 شحنة من السلع، مما سجل انخفاضاً بنسبة تناهز 80% مقارنة مع 11,392 شحنة سُمح بدخولها في نيسان/أبريل 2007, قبل اعتلاء حماس السلطة في القطاع.
واضاف ان الكثير من الأطفال شهدوا أعمال العنف خلال العملية العسكرية. شاعت حالات التبول غير الإرادي والأرق والسلوك التهيجي. وبات آلاف الأطفال والبالغين بحاجة للاستشارة الطبية لمعالجة الآثار النفسية والضغط الناجم عن الصدمة.
إعادة الإعمار غير مسموح به والصحة العامة في خطر:
اوضح التقرير انه ستظل أحياء غزة المتضررة بشدة جراء الضربات الإسرائيلية تشبه مركزاً سطحياً لزلزال عنيف ما لم يسمح بإدخال كميات هائلة من الإسمنت والحديد ومواد البناء الأخرى إلى القطاع لإعادة الإعمار إلى أن يتحقق ذلك ستضطر آلاف العائلات التي فقدت كل شيء إلى العيش في الضيق مع الأقرباء، فيما ستواصل عائلات أخرى العيش في الخيام لأنها لا تملك مكاناً آخر تذهب إليه.
مكّنت أعمال الإصلاح التي أنجزت على عجل بعد العملية العسكرية من إعادة خدمات الماء والصرف الصحي إلى ما كانت عليه, ولكن فقط إلى المستوى غير الكافي أصلاً الذي كانت عليه قبل كانون الأول/ديسمبر 2008. فالبنية التحتية تتحمل ما لا طاقة لها به وبالتالي فهي عرضة للانهيار. وبالرغم من استخدام مادة الكلور لتنقية المياه, إلا أن خطر تسرب مياه المجاري والنفايات الأخرى إلى شبكة الإمدادات المائية يشكل تهديداً رئيسياً على الصحة العامة.
يجري كل يوم ضخ 69 مليون لتر من النفايات المعالجة جزئياً أو غير المعالجة بتاتاً إلى البحر الأبيض المتوسط مباشرة نظراً لعدم القدرة على معالجتها. تعادل هذه الكمية من النفايات حجم 28 مسبحاً أولمبياً.
تنقطع المياه عن عشرات الآلاف من الناس عندما تنهار آبار المياه التابعة لبلدية غزة, ويحدث هذا بشكل متكرر نظراً لقلة الإمدادات من حيث أنابيب المياه الجديدة وقطع الغيار الكهربائية والمضخات ومحوِّلات التيار الكهربائي.
وجدت اللجنة الدولية للصليب الأحمر أحياناً طرقاً لإصلاح البنية التحتية دون الاعتماد على الواردات. فاستخدمت على سبيل المثال مواد جرى إعادة استعمالها (بما في ذلك أنابيب المياه المستخدمة وقطع الإسمنت من جدار رفح الحدودي الذي دمر في كانون الثاني/يناير 2008), وذلك لترميم إحدى محطات معالجة مياه الصرف الصحي التي يستفيد من خدماتها 175,000 شخص في رفح.
لكن هذا وحده لا يكفي. فثمة حاجة ماسة لإصلاحات أخرى ومشاريع لإعادة الإعمار بغية منع زيادة تدهور شبكة الإمداد بالمياه والصيانة الضرورية ووقف تدهور أوضاع شبكة المياه والصرف الصحي عبر أنحاء قطاع غزة. وإذا حدث أن انهارت خدمات المياه والصرف الصحي في أية لحظة فإن ذلك يثير شبح وقوع أزمة كبيرة في الصحة العامة.
إن الوسيلة الوحيدة لمعالجة هذه الأزمة هي رفع القيود المفروضة على استيراد قطع الغيار وأنابيب المياه ومواد البناء مثل الإسمنت والحديد كي يتسنى إعادة بناء المنازل وصيانة البنية التحتية الحيوية وتحسينها.
قلة الرعاية الصحية:
إن نظام الرعاية الصحية في غزة لا يمكن أن يوفر العلاج الذي يحتاجه مرضى كثيرون يعانون من أمراض خطيرة. وتكمن المأساة في عدم السماح للكثيرين منهم بمغادرة القطاع في الوقت المناسب لتلقي العلاج في مكان آخر. وغالباً ما يتم تسييس مشاكل الصحة في غزة فيجد المرضى أنفسهم حبيسي المتاهات البيروقراطية. إن إجراءات طلب الحصول على تصريح لمغادرة القطاع معقدة وتستوجب موافقة السلطات الفلسطينية والإسرائيلية معاً. ويضطر المرضى في حالات خطيرة إلى الانتظار أحياناً أشهراً عديدة قبل أن تسمح لهم السلطات المختصة بمغادرة قطاع غزة.
لكن, وحتى عندما يحصل المرضى على التصريحات اللازمة للمغادرة, يكون المرور من معبر "إيريز" للدخول إلى إسرائيل شاقاً. فالمرضى الذين يستعينون بأجهزة طبية للبقاء على قيد الحياة, يجري إنزالهم من سيارات الإسعاف وحملهم على نقالات مسافة تتراوح بين 60 و 80 متراً مروراً من المعبر إلى سيارات الإسعاف التي تنتظرهم على الجانب الآخر. أما المرضى القادرون على المشي دون مساعدة, فقد يخضعون لاستجواب مطول قبل السماح لهم بالمرور من المعبر قصد العلاج الطبي, أو منعهم من دخول إسرائيل ثم العودة إلى حيث أتوا, وهذا ما يحدث أحياناً.
غسان من مدينة غزة, في الرابعة عشرة من عمره, جرح خلال العملية العسكرية وقتل شقيقه الأكبر, وينتظر تركيب طرفين اصطناعيين لساقيه. إن شح الأدوية اللازمة مشكلة دائمة في مستشفيات وعيادات الصحة في غزة, التي تعتمد على إمدادات آنية ومؤكدة للأدوية من وزارة الصحة التابعة للسلطة الفلسطينية بالضفة الغربية, لكن سلسلة الإمداد تنهار في غالب الأحيان. فالتعاون بين السلطات الصحية في الضفة الغربية وغزة صعب. كذلك تعوق إجراءات الاستيراد الإسرائيلية المعقدة, والتي تستغرق وقتاً طويلاً, الإمداد المؤكد حتى بالمستلزمات الأساسية مثل مسكنات الألم ومظهِّرات أفلام الأشعة السينية. ونتيجة لذلك لا يحصل بعض المرضى, وحتى المصابين منهم بالسرطان أو بعجز كلوي, على الأدوية الضرورية التي يحتاجونها.
علاوة على هذا, هناك ما بين 100 إلى 150 شخص ممن فقدوا أطرافاً في العملية العسكرية الأخيرة ينتظرون تركيب أطراف اصطناعية لهم. يعد مركز الأطراف الاصطناعية وشلل الأطفال الذي تدعمه اللجنة الدولية المركز الوحيد للتأهيل الجسماني في غزة, والذي يستطيع, بشكل مناسب, توفير التأهيل والأدوات المصنوعة بطريقة مهنية بحيث تنسجم مع متطلباتهم. وبما أنه المركز الوحيد لتركيب الأطراف في قطاع غزة, كان عليه تلبية جميع طلبات الأطراف الاصطناعية. بيد أن استيراد المواد والمكونات الخاصة بتقويم العظام مازال عملية صعبة تستغرق وقتاً طويلاً.
توقفت مستشفيات غزة عن العمل, والكثير من المعدات غير صالحة وبحاجة للإصلاح. أما الإجراءات المعقدة للحصول على موافقة لاستيراد قطع الغيار, فتجعل من الصعب إدخال وصيانة معدات المستشفيات دون تأخير, مثل آلات التصوير الطبقي وقطع الغيار, وحتى آلات الغسيل في المستشفيات. اضطرت اللجنة الدولية إلى الانتظار مدة خمسة أشهر حتى تتمكن من استيراد أجهزة طبية لغرف العمليات كأجهزة تثبيت العظام.
مازالت حالات انقطاع التيار الكهربائي وعدم انتظام قوته تلحق الضرر بالمعدات الطبية, فتضطر معظم المستشفيات إلى الاعتماد على المولدات الكهربائية ساعات عديدة في اليوم, ولكنه ليس من المؤكد أبداً الحصول على ما يكفي من الوقود لتشغيلها.
يجب السماح للمرضى بالمرور السريع والآمن إلى خارج قطاع غزة لتلقي الرعاية الطبية الملائمة التي لا يستطيعون الحصول عليها داخل القطاع. كما يجب السماح للمستلزمات الطبية والأدوية الضرورية والمواد المستخدمة مرة واحدة وقطع الغيار بدخول قطاع غزة دون تأخير وبالكميات الكافية بغية تأمين خدمات الصحة الأساسية للسكان.
اقتصاد مختنق:
بين التقرير ان إحدى العواقب الأكثر خطورة الناجمة عن الإغلاق هي ارتفاع نسبة البطالة التي بلغت 44% في نيسان/أبريل 2009, حسب تقرير غرفة التجارة في غزة. أدت القيود المفروضة على عمليات الاستيراد والتصدير منذ حزيران/يونيو 2007 إلى توقف 96% من الإنتاج الصناعي في غزة وفقدان قرابة 70,000 وظيفة. وكان لها أيضاً أثر شديد على القدرة على تصدير المنتوجات إلى إسرائيل والضفة الغربية, وهو أمر أصبح شبه مستحيل.
لا تمثل الأنفاق تحت الحدود بين مصر وغزة بديلاً للنمو الاقتصادي, كما أنها لا تؤمن الإمداد الكافي من السلع التي بمقدور السكان شراؤها.
لقد أدى انهيار الاقتصاد في غزة إلى زيادة الفقر بشكل كبير. وأظهرت دراسة أجرتها اللجنة الدولية على أرباب العائلات في أيار/مايو 2008 أن أكثر من 70% منهم كانوا حتى ذلك الحين يعيشون تحت خط الفقر, إذ بلغ دخلهم الشهري أقل من 250 دولاراً أمريكياً للأسرة الواحدة المؤلفة من 7 إلى 9 أفراد (دولار للفرد الواحد في اليوم عدا المساعدات الإنسانية التي قد يتسلمها). كما يعاني من الفقر المدقع 40% من عائلات غزة التي يقل دخلها الشهري عن 120 دولاراً (نصف دولار للفرد الواحد في اليوم). عادة, يتعين على كل فرد يعمل, سواء في القطاع العام أو الخاص, إعالة أسرته المكونة من 6 إلى 7 أنفار وإعانة بضعة أفراد من عائلته الموسعة.
لقد أدى الفقر المتزايد إلى عواقب وخيمة على النظام الغذائي للسكان. فاضطر العديد من العائلات إلى تخفيض نفقاتها المنزلية إلى مستويات تبقيهم على قيد الحياة. يحصل الناس عامة على الوحدات الحرارية التي يحتاجونها, لكن القلائل فقط هم القادرون على اقتناء غذاء صحي ومتوازن. تستبدل العائلات الفقيرة في معظم الأحيان الفواكه والخضراوات واللحم والسمك بالمواد الغذائية الرخيصة كالحبوب والسكر والزيت. ونتيجة لذلك أصبح عشرات الآلاف من الأطفال يعانون من نقص في الحديد وفيتامين a وd, وقد يؤدي هذا إلى توقف نمو العظام والأسنان وضعف المقاومة ضد الأمراض المعدية والإرهاق وتدني القدرة على التعلُّم.
استنفد معظم الأهالي الأشد فقراً وسائل مواجهة الوضع, ولم يبق للكثير منهم أية مدخرات. باعوا ممتلكاتهم الخاصة كالمجوهرات والأثاث وبدأوا يبيعون مصادر الإنتاج كالمواشي أو قوارب الصيد أو سيارات الأجرة. ليس في مقدورهم تخفيض الإنفاق على الغذاء. وسوف تؤثر المستويات المعيشية المتدهورة على صحة السكان وحالهم على المدى البعيد. ومن المرجح أن يكون الأطفال هم الأكثر تضرراً حيث يشكلون أكثر من نصف عدد سكان غزة.
يرتبط الفقر المنذر بالخطر في غزة ارتباطاً مباشراً بالإغلاق المحكم المفروض على القطاع. يجب إعادة الصناعة المحلية وغيرها من القطاعات التجارية إلى سابق عهدها ويجب السماح باستيراد المواد الأساسية وتصدير المنتجات. ولكن ذلك يتطلب وقتاً طويلاً. لقد وصلت الأزمة من الحدة والتأصل درجة يستغرق معها الانتعاش الاقتصادي سنوات طويلة حتى وإن تم فتح جميع المعابر غداً.
العمل الزراعي في مناطق الخطر:
اوضح التقرير ان الإغلاق الحق أيضاً أضراراً بالغة بعائلات المزارعين التي تشكل أكثر من ربع عدد سكان غزة. صادرات الفريز (الفراولة) والطماطم الصغيرة والورود, التي شكلت مصدراً مهماً للدخل, توقفت تماماً. كما انخفض دخل الكثير من المزارعين إلى النصف نظراً للصعوبات التي يلاقونها في بيع كامل محصولهم الزراعي داخل غزة. وحتى إذا أفلحوا في ذلك, فإن السعر الذي يحصلون عليه ليس إلا جزءاً مما قد يكسبون عادة من خلال تصدير محصولهم إلى إسرائيل وأوروبا.
أثناء العملية العسكرية الأخيرة اقتلع الجيش الإسرائيلي الآلاف من أشجار الليمون والزيتون والنخيل, بما في ذلك أشجار في عمق قطاع غزة. كما دمر الجيش شبكات الري والآبار والدفيئات.
واضاف التقرير ان الكثير من المزارعين يمنع فعلاً من الوصول إلى أجزاء من أراضيهم بسبب "المنطقة المحظورة" التي فرضتها إسرائيل على أراضي غزة الواقعة على الجانب الحدودي مع إسرائيل. يتواجد ما لا يقل عن 30% من الأراضي الصالحة للزراعة في غزة داخل هذه المنطقة العازلة, التي تمتد أحياناً إلى كيلومتر واحد من الحاجز. لا يعرف المزارع على الإطلاق ما إذا كان العمل في أرضه أو جني محاصيلها آمناً داخل هذه المنطقة. يعرّض المزارعون أنفسهم لخطر إطلاق النار عليهم عند الاعتناء بأراضيهم كما أن توغلات الجيش غالباً ما تتلف الحقول وأجزاء من المحاصيل الزراعية.
من الصعب النهوض بالإنتاج الزراعي وإنعاشه من جديد ليس فقط بسبب الدمار الذي لحق به, ولكن أيضاً بسبب عدم سماح إسرائيل باستيراد الأسمدة الملائمة وصعوبة أو حتى استحالة العثور على أنواع عديدة من البذور في غزة.
كذلك تضرر قطاع الصيد بشدة جراء القيود التي تفرضها إسرائيل على حرية الحركة. ففي كانون الثاني/يناير الماضي تقلصت المنطقة البحرية التي تسمح فيها إسرائيل بالصيد من ستة إلى ثلاثة أميال بحرية من ساحل غزة, مما أدى إلى انخفاض كمية الأسماك التي يتأتى صيدها, وبالتالي إلى قلة هذا الغذاء الغني بالبروتينات. فالأسماك الكبيرة والسردين التي كانت تشكل حوالي 70% من الصيد قبل 2007, تتواجد فقط خارج منطقة الأميال البحرية الثلاثة.
من الضروري اتخاذ خطوات عاجلة للسماح للمزارعين باستئناف عملهم بأمان, كما ينبغي السماح بدخول الأسمدة وقطع الغيار للآليات والأغطية البلاستيكية للدفيئات والعلف إلى قطاع غزة بكميات كافية لضمان بيعها بأسعار في متناول المزارعين. وفي الوقت نفسه يجب السماح للمزارعين باستئناف تصدير منتجاتهم لكسب الرزق المناسب. كما يجب إلغاء القيود التي فرضت على الصيد مؤخراً.
محاصرون:
اشار التقرير الى انه لم يتبق لأهالي غزة سوى فرصة ضئيلة للاتصال مع أقربائهم في الخارج أو مواصلة التعليم أو التدريب المهني بعد أن أغلقت إسرائيل المعابر وتنطبق القيود المفروضة على مغادرة قطاع غزة ودخوله أيضاً على الموظفين الفلسطينيين العاملين مع المنظمات الدولية كاللجنة الدولية للصليب الأحمر. ولزيادة الأمر سوءاً, فإنه نادراً ما يسمح باستعمال معبر رفح على الحدود المصرية.
ويظهر الأثر النفسي خاصة على الأسر التي يرزح أقرباؤهم في السجون داخل إسرائيل. ففي حزيران/يونيو 2007, أوقفت إسرائيل برنامج الزيارات التابع للجنة الدولية والذي مكّن 900 أسرة في القطاع من زيارة أقربائها المعتقلين. ونتيجة لذلك فقد الكثير من الأطفال الوسيلة الوحيدة المتبقية لهم للتواصل مع أب أو أم أو قريب. لذلك يجب السماح لهذه العائلات باستئناف الزيارات إلى أقربائهم المحتجزين في أماكن الاعتقال الإسرائيلية.
أما طلاب الجامعات الذين يحصلون على منح للدراسة في الخارج فلا يسمح لهم بمغادرة غزة في معظم الحالات. والطلاب, الذين لا يستطيعون المغادرة, يجدون أنفسهم أمام خيارات محدودة لمواصلة التعليم داخل هذا الجيب الساحلي. غالباً ما يمنع أساتذة الجامعات والمدرسون وموظفو الصحة من المشاركة في الدورات التدريبية والندوات التي تعقد في الخارج والتي من شأنها أن تساعدهم على صقل مهاراتهم وخبرتهم.
كسر دائرة اليأس والعوز:
بين التقرير وقع خلال العامين الماضيين 1,5 مليون فلسطيني يعيشون في قطاع غزة في أتون دائرة لا متناهية من الحرمان والفقر نتيجة النزاع, ولا سميا كنتيجة مباشرة لإغلاق المعابر.
وشددت اللجنة الدولية مراراً على أن حق إسرائيل في اتخاذ التدابير للحفاظ على أمنها ينبغي أن يكون متوازنا مع حق سكان غزة في حياة طبيعية وكريمة. يفرض القانون الدولي الإنساني على إسرائيل واجب ضمان تلبية احتياجات السكان الأساسية من حيث الغذاء والمأوى والماء والإمدادات الطبية.
وطالبت اللجنة الدولية للصليب الأحمر مرة أخرى برفع القيود المفروضة على تنقل الأشخاص والسلع كإجراء أول وأكثر إلحاحاً لفك عزلة غزة والسماح لأهاليها بإعادة بناء حياتهم.
وبينت انه إذا لم يتسنَّ استيراد مواد البناء والمستلزمات الضرورية الأخرى إلى قطاع غزة, فإن مبلغ 4,5 ملياردولار التي وعدت بها الدول المانحة لإعادة الإعمار في قمة دولية عقدت في مصر في آذار/مارس 2009, لن يجدي نفعاً.
ومهما كان الأمر, فإن إعادة الإعمار وحده لا يوفر وسائل طويلة الأمد لمساعدة غزة على الانتعاش. من غير المقبول الرجوع إلى وضع ما قبل العملية العسكرية الأخيرة, لأن ذلك لن يساهم إلا في إطالة محنة غزة.
ودعت اللجنة الى تغييرات أساسية في سياسة إسرائيل, مثل السماح بالصادرات والواردات من وإلى غزة, مما يزيد من تدفق السلع ويسهل حركة السكان إلى المستوى الذي كانت عليه في شهر أيار/مايو 2007, ويسمح للمزارعين بالوصول إلى أراضيهم في المنطقة العازلة ويمكّن الصيادين من العودة إلى مياه أكثر عمقاً.
واكدت انه لا يمكن للعمل الإنساني أن يحل مكان الخطوات السياسية الجديرة بالثقة واللازمة لإحداث هذه التغييرات. إن العملية السياسية الصادقة والشجاعة بمشاركة كل الدول والسلطات السياسية والجماعات المسلحة المنظمة المعنية هي وحدها التي يمكن أن تخفف محنة غزة وتستعيد الحياة الكريمة لأهاليها. وإلا فإن البديل سيكون المزيد من الانزلاق نحو البؤس يوماً عن يوم.