بحث يستعرض فيه نبيل الفيومي القوانين والتشريعات الدولية المتعلقة بمدينة القدس وتعارض موازين القوة مع موازين العدالة وقواعد القانون الدولي في حالة القدس وذلك عبر دراسة مستفيضة وشاملة، تصلح منطلقا يؤسس عليه المفاوض الفلسطيني في بحث الوضع النهائي للمدينة المقدسة. واملنا ان يتم الاستفاده من هذه الدراسه لكل الباحثين ولمؤسساتنا الوطنيه ذات الصله وان يتوازى هذا مع الاهتمام بالكوادر العلميه الفلسطينيه والاخذ بيدهم واستيعابهم في مؤسسات منظمة التحرير والسلطه الوطنيه سواء كانوا خارج الوطن ام في الداخل .
مقدمــــة
أثارت مسألة مدينة القدس المحتلة اهتماماً متزايداً في الآونة الأخيرة بل كانت الشرارة الأولى التي انطلقت انتفاضة الأقصى لأجلها. ومع تزايد التركيز على حق السيادة الفلسطينية على مدينة القدس وعدم الاعتراف الدولي بالسيادة والتغييرات الإسرائيلية عليها في كثير من قرارات الأمم المتحدة , فقد حاول المختصين في السياسة وعلم الاجتماع جذب انتباه الأسرة الدولية إلى قضية القدس، إلا أن هذه النظرة بقيت قاصرة وبعيدة عن مبتغى القانون الدولي وقرارات الشرعية الدولية الممثلة بالجمعية العامة ومجلس الأمن الدولي. هذه الشرعية التي اكتسبتها مسألة القدس نتيجة نضال الشعب الفلسطيني كانت الرد القانوني على الدولة اليهودية التي حاولت جاهدةً أن تظهر أن احتلالها للقدس والتغييرات الهيكلية فيها والممارسات العدوانية بحق الشعب الفلسطيني من طرد وقتل وإبعاد وهدم البيوت وتجريف الأراضي الزراعية وإقامة المستعمرات وتهويد مدينة القدس بكنائسها ومساجدها كل هذه متفقة مع القانون الدوليين, علماً بأن جميع الدفوع اليهودية القانونية لم تجد قبولاً لدى المجتمع الدولي, والدليل على ذلك هو مرور ثلاثة وخمسون عاماً على الاحتلال الإسرائيلي للقدس_ بالرغم من التغييرات اليهودية في معالمها وسكانها ورغم الضم الإسرائيلي للقسم الشرقي للقدس_ إلا أن المجتمع الدولي لا يعترف بالسيادة الإسرائيلية على القدس ويعتبر الضم الإسرائيلي غير قانوني. ومن هنا كان اهتمام هذا البحث بدراسة الجوانب القانونية لمسألة القدس والتعرف على المبادئ والقواعد التي يطبقها القضاء الدولي في المنازعات الإقليمية بما ينسجم مع واقع الحال في مدينة القدس, ومدى تطابق أفعال الاحتلال الإسرائيلي مع ضوابط القانون الدولي, التي تحكم ممارسات القوات المحتلة، الممثلة بمعاهدة جنيف الرابعة لعام 1949م وأحكام لاهاي لعام 1907م التي تعتبرها الدولة اليهودية ملزمة.
والحقيقة إن مجرد رفض المجتمع الدولي قبول أعمال تُعتبر غير قانونية، يبدو غير كافٍ ما لم يتخذ المجتمع الدولي إجراءات ملموسة لإجبار إسرائيل على تغيير موقفها، وهذه تعتبر اولى مهمات الأمم المتحدة إذا استطاعت أن تتحرر من قيود الهيمنة الأمريكية, وتعاونت الأمم المتحدة مع انتفاضة الأقصى في فلسطين.
بقلم المحامي نبيل الفيومي
تمهيـــد
إن القدس بحكم مكانتها الدينية المميزة,و التي أجمع أصحاب الديانات السماوية الثلاث الإسلامية والمسيحية واليهودية على قدسيتها. كانت هدفاً للغزاة الذين كانوا يحرصون باستمرار على اكتسابها وتثبيت وجودهم فيها، وقد أثبتت التنقيبات الأثرية أن أول من عاش في مدينة القدس كان اليبوسيون، ويجمع المؤرخون على أنهم كنعانيون عرب ينحدرون من شبه الجزيرة العربية التي نزحوا عنها في عام 3000-2500ق. م، وقام ببناءها وأشاد تحصيناتها الملك (سالم اليبوسي). ثم عرفت المدينة الازدهار في عهد ملكها ملكي صادق، الذي أطلق عليه( ملك السلام) كونه كان مُحباً للسلام ومن هنا جاء اسم أور سالم وعرفت المدينة باسمها الكنعاني أورسالم، وقد ورد اسم أورسالم في الكتابات الكنعانية التي تعرف برسائل تل العمارنة العائد تاريخها إلى القرن الخامس عشر ق. م أي ما قبل ظهور مدونات التوراة. وقد دام حكم اليبوسيون للقدس 13 قرناً متتالية.
ودخلها في تلك الفترة الفلسطيون والمصريون (الفراعنة) والحثييون, ولكن القدس ظلت تحت كل الظروف كنعانية .لأن من أقام بها من الغزاة اندمج بمجتمعها الكنعاني، ثم غزاها العبرانيون الذين دخلوا فلسطين من الشرق وأسسوا تجمع استيطاني يدعى يهودا وإسرائيل، ثم دحرت مستوطنة يهودا على يد البابليون بقيادة نبوخذ نصر الذي دمر مدينة القدس، ودمرت مستوطنة إسرائيل من قبل الآشوريين عام 733 ق. م، وفي عام 539ق. م تمكن كورش ملك الفرس من الاستيلاء على بابل وبلاد الشام وقد ساعده اليهود على ذلك فالتمسوا منه أن يذهبوا إلى القدس، فعاد منهم القليل وبقيت الأغلبية في بابل، ثم انتزعت القدس من أيدي الفرس عام 232ق. م ودخلت في حكم اليونان لمدة قرن ونصف، وفي عام 63 ق. م خضعت القدس لحكم الرومان حيث تخلل هذه الحقبة ميلاد المسيح في بيت لحم.
وفي العهد الروماني حاول بقايا اليهود ـ الذين أعادهم الفرس إلى القدس كطائفة دينية , استغلال هذه الصفة الممنوحة للطوائف الدينية لأغراض سياسية فقضى الرومان عليهم, وأصدر الإمبراطور الروماني مرسوماً يقضي بمنع تواجد اليهود في القدس تحت طائلة عقوبة الموت. وعندما تحولت الإمبراطورية الرومانية من الديانة الوثنية إلى المسيحية أمرت هيلانة والدة الإمبراطور قسطنطين ببناء كنيسة القيامة في القدس وتم إنجازها عام 335م.
وعاشت القدس بسلام إلى عام 614م, عندما هاجم الفرس الإمبراطورية الرومانية واحتلوا بلاد الشام مرة أخرى ودخلوا القدس وشارك إلى جانب الفرس آنذاك عدد غير قليل من اليهود. وتمكن هؤلاء اليهود من إشعال النار بكنيسة القيامة بعد أن قاموا بتدمير وسلب المدينة انتقاماً من المسيحيين.
ثم جاء الرومان ودحروا الفرس عن مدينة القدس في عام 627، ودام الحكم الروماني إلى عام 638م وكان هذا عام الفتح الإسلامي حيث دخل المسلمون فاتحين ومحررين لمدينة القدس من الغزو الروماني، وعادت القدس عربية إلى أن بدأت خيوط المؤامرة الدولية تنكشف عندما صدر وعد بلفور القاضي بتأسيس وطن قومي لليهود في فلسطين, وقد لعبت بريطانيا دوراً كبيراً في إدخال اليهود المهاجرين من أوطانهم إلى فلسطين, ومساعدتهم في السلاح، إلى أن صدر قرار تقسيم فلسطين وتدويل مدينة القدس نتيجة مؤامرة دولية على رأسها دول أوروبا وأمريكا، وقد رفض الشعب الفلسطيني هذا القرار رفضاً قاطعاً رغم افتقار هذا الشعب لأي دعم مادي أو عسكري أو معنوي، فقامت العصابات اليهودية شتيرن والأرغون والهاغاناه تساندها الكتائب اليهودية من الجيش البريطاني باحتلال الجزء الأكبر من فلسطين والقسم الغربي لمدينة القدس عام 1948م بعد أن ارتكبت هذه العصابات عشرات المذابح بحق الفلسطينيين وتهجير وطرد الآلاف من الشعب الفلسطيني إلى كافة أرجاء المعمورة, ولم تكتف بذلك, بل أعلنت هذه العصابات بأنها تمثل دولة تدعى إسرائيل وتم الاعتراف بها رغم مخالفتها لميثاق الأمم المتحدة وعدم التزامها بقرارات الشرعية الدولية، بل كشفت عن عدوانيتها التوسعية فاحتلت القسم الشرقي لمدينة القدس عام 1967م وأعلنت بأن القدس موحدة عاصمة إسرائيل الأبدية وصدرت القرارات اللاحقة من الجمعية العامة ومجلس الأمن, التي أكدت بعدم الاعتراف بالسيادة الإسرائيلية على مدينة القدس.
إن السيادة الإسرائيلية على مدينة القدس استندت على ادعاءات مخالفة للشرعية الدولية وقواعد القانون الدولي، بل تذرع الصهاينة بجميع الوسائل والحجج الدينية والشوفينية, وتوسلوا الرأي العام العالمي بأكذوبة المحرقة اليهودية في سبيل هضم حقوق الشعب الفلسطيني وسلخ مدينة القدس عن الوطن الأم فلسطين، فما هي هذه الادعاءات الإسرائيلية الباطلة: ـ
أ- الادعاء بالسيادة الإسرائيلية على القدس استناداً للحق التوراتي
إن إسرائيل لا تملك أي دليل أو إثبات لوجود سيادة دينية لها على مدينة القدس، والقانون الدولي العام يعتبر أن هذه الحجة سياسية أكثر منها قانونية, وإنها تعكس عقلية الهيمنة العنصرية التي ينطلق منها النظام السياسي للحكومات الإسرائيلية المتعاقبة، بل إن بعض القانونيين يذهبون إلى حد وصف الادعاءات السياسية الدينية بأنها ستار لأغراض توسعية عدوانية لدى القيادة الإسرائيلية، وإن هذا الادعاء لا يقوى على إضفاء الشرعية على تصرف الكيان الإسرائيلي إزاء مدينة القدس المحتلة, والمتمثل بخرق القاعدة الدولية القاضية بمنع استخدام القوة في مجال العلاقات الدولية لإحداث تغييرات إقليمية، إضافة إلى أن قواعد القانون الدولي التقليدية قد حددت منذ نشوئها في المجتمع الدولي مبادئ أساسية وقواعد ثابتة مقررة لاكتساب الملكية الإقليمية وحق السيادة عليها قانونياً وفعلياً وهي:
1- الملكية الأصلية للشعب وحكومته الذي يسكن الإقليم ويملكه, وهذه هي الملكية الصحيحة قانونياً وواقعياً.
2- الملكية المنقولة عن طريق الإقامة أو الاغتصاب أو الإلحاق, وهذه هي الملكية الواقعية التي رفضها المجتمع الدولي وألغى أسسها منذ قيام عصبة الأمم عام 1919م، ثم جاءت الأمم المتحدة وقررت حق السيادة والاستقلال وتقرير المصير لكل الشعوب في أوطانها. وما يلفت الانتباه أن الأسس والمبادئ والقواعد الدولية التي صقلها وقننها عهد عصبة الأمم وميثاق الأمم المتحدة جاءت خالية من أي مبدأ أو قاعدة تشير من قريب أو بعيد إلى العامل الديني أو التاريخي المجرد من المشروعية والملكية القانونية، كأساس للملكية الإقليمية أو لحق السيادة على هذا الإقليم، وإسرائيل نفسها لم تدع بأي وجود قانوني أو واقعي غير الادعاء الديني التوراتي لها في القدس بل إن محكمة العدل الإسرائيلية رفضت الاحتجاج بالادعاء الديني الذي تقدم به المستوطنون في مستوطنة إيلون موريه على أراضي قرية روجيب الفلسطينية كوسيلة للاستيلاء على الأرض الفلسطينية.
ولهذا يمكن القول أن اعتماد الصهيونية على عامل الدين سبباً لاغتصاب فلسطين, وجعل عاصمتهم القدس بغض النظر عن عامل الزمن والملكية والترابط التاريخي مجردين عن عوامل تكوين الأمم والأوطان القانونية, ما هو إلا تناقض فاضح مخالف لنظم المجتمع الدولي والأسس التي تقوم عليها معظم الدول في حاضرنا.
فإذا كانت الصهيونية استولت على القدس متذرعة بأنها كانت مهد الديانة اليهودية جاز إذن لأي شعب مسيحي اشترك في الحروب الصليبية في القرن الحادي عشر الميلادي أن يطالب بالاستيلاء على مدينة القدس لأنها أيضاً مهد المسيحية وقياساً على ذلك يجوز لمسلمي أندونيسيا أو أمريكا أن يدعوا بحق السيادة على القدس كونهم مسلمين، متجاهلين الشعب الفلسطيني صاحب السيادة على مدينة القدس، ولو طبقت نظرية الحق التاريخي المجرد حسب النظرية الصهيونية لما كان لدول أمريكا الشمالية وأسبانيا وغيرها من دول العالم حق ثابت في أراضيها التي تقوم عليها منذ مئات السنين، لأن هذه الأرض كانت في العصور الغابرة ملكاً لأقوام أخرى أو لأنها خضعت في فترة سابقة من التاريخ لحكم أقوام أخرى فاتحة أو غاصبة أو حاكمة، بل طبقاً لهذه النظرية يمكن للعرب أن يطالبوا بالسيادة على بلاد الهند والسند لأنهم حكموها مئات السنين. ولكن هذا التصور يخالف كل أحكام القانون الدولي وعوامل تكوين الأمم والذي يتعارض مع مقاصد الأمم المتحدة ومبادئها الأساسية.
والحقيقة الواضحة أن جميع أسفار العهد القديم والجديد التي لها مكانة دينية عالية لدى جميع الفئات اليهودية سواء إشكنازيم أو سفارديم لا تأتي على ذكر مدينة القدس مباشرة أو غير مباشرة لا من قريب أو من بعيد, بل إن كلمة القدس أو (أورشليم) لا وجود لها على الإطلاق، ولكن الواقع هو أن اليهود لا يملكون إرثاً دينياً أو تاريخياً بشكل حقيقي يمكن الركون إليه كباقي الديانات كالإسلامية مثلاً حيث ذكر في القرآن الكريم المسجد الأقصى بشكل واضح ونبَّه المسلمين إلى الصفة المباركة لمدينة القدس في الآية الكريمة {سبحان الذي أسرى بعبده من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى الذي باركنا حوله} صدق الله العظيم.
فكيف يمكن لليهودي أن يربط مدينة القدس بالتوراة التي تجاهلت ذكرها وقدسيتها. ومن هنا يغدو هذا الادعاء الديني المجرد باطل ولا مسوغ شرعي لوجوده في قواعد القانون الدولي العام.
مقدمــــة
أثارت مسألة مدينة القدس المحتلة اهتماماً متزايداً في الآونة الأخيرة بل كانت الشرارة الأولى التي انطلقت انتفاضة الأقصى لأجلها. ومع تزايد التركيز على حق السيادة الفلسطينية على مدينة القدس وعدم الاعتراف الدولي بالسيادة والتغييرات الإسرائيلية عليها في كثير من قرارات الأمم المتحدة , فقد حاول المختصين في السياسة وعلم الاجتماع جذب انتباه الأسرة الدولية إلى قضية القدس، إلا أن هذه النظرة بقيت قاصرة وبعيدة عن مبتغى القانون الدولي وقرارات الشرعية الدولية الممثلة بالجمعية العامة ومجلس الأمن الدولي. هذه الشرعية التي اكتسبتها مسألة القدس نتيجة نضال الشعب الفلسطيني كانت الرد القانوني على الدولة اليهودية التي حاولت جاهدةً أن تظهر أن احتلالها للقدس والتغييرات الهيكلية فيها والممارسات العدوانية بحق الشعب الفلسطيني من طرد وقتل وإبعاد وهدم البيوت وتجريف الأراضي الزراعية وإقامة المستعمرات وتهويد مدينة القدس بكنائسها ومساجدها كل هذه متفقة مع القانون الدوليين, علماً بأن جميع الدفوع اليهودية القانونية لم تجد قبولاً لدى المجتمع الدولي, والدليل على ذلك هو مرور ثلاثة وخمسون عاماً على الاحتلال الإسرائيلي للقدس_ بالرغم من التغييرات اليهودية في معالمها وسكانها ورغم الضم الإسرائيلي للقسم الشرقي للقدس_ إلا أن المجتمع الدولي لا يعترف بالسيادة الإسرائيلية على القدس ويعتبر الضم الإسرائيلي غير قانوني. ومن هنا كان اهتمام هذا البحث بدراسة الجوانب القانونية لمسألة القدس والتعرف على المبادئ والقواعد التي يطبقها القضاء الدولي في المنازعات الإقليمية بما ينسجم مع واقع الحال في مدينة القدس, ومدى تطابق أفعال الاحتلال الإسرائيلي مع ضوابط القانون الدولي, التي تحكم ممارسات القوات المحتلة، الممثلة بمعاهدة جنيف الرابعة لعام 1949م وأحكام لاهاي لعام 1907م التي تعتبرها الدولة اليهودية ملزمة.
والحقيقة إن مجرد رفض المجتمع الدولي قبول أعمال تُعتبر غير قانونية، يبدو غير كافٍ ما لم يتخذ المجتمع الدولي إجراءات ملموسة لإجبار إسرائيل على تغيير موقفها، وهذه تعتبر اولى مهمات الأمم المتحدة إذا استطاعت أن تتحرر من قيود الهيمنة الأمريكية, وتعاونت الأمم المتحدة مع انتفاضة الأقصى في فلسطين.
بقلم المحامي نبيل الفيومي
تمهيـــد
إن القدس بحكم مكانتها الدينية المميزة,و التي أجمع أصحاب الديانات السماوية الثلاث الإسلامية والمسيحية واليهودية على قدسيتها. كانت هدفاً للغزاة الذين كانوا يحرصون باستمرار على اكتسابها وتثبيت وجودهم فيها، وقد أثبتت التنقيبات الأثرية أن أول من عاش في مدينة القدس كان اليبوسيون، ويجمع المؤرخون على أنهم كنعانيون عرب ينحدرون من شبه الجزيرة العربية التي نزحوا عنها في عام 3000-2500ق. م، وقام ببناءها وأشاد تحصيناتها الملك (سالم اليبوسي). ثم عرفت المدينة الازدهار في عهد ملكها ملكي صادق، الذي أطلق عليه( ملك السلام) كونه كان مُحباً للسلام ومن هنا جاء اسم أور سالم وعرفت المدينة باسمها الكنعاني أورسالم، وقد ورد اسم أورسالم في الكتابات الكنعانية التي تعرف برسائل تل العمارنة العائد تاريخها إلى القرن الخامس عشر ق. م أي ما قبل ظهور مدونات التوراة. وقد دام حكم اليبوسيون للقدس 13 قرناً متتالية.
ودخلها في تلك الفترة الفلسطيون والمصريون (الفراعنة) والحثييون, ولكن القدس ظلت تحت كل الظروف كنعانية .لأن من أقام بها من الغزاة اندمج بمجتمعها الكنعاني، ثم غزاها العبرانيون الذين دخلوا فلسطين من الشرق وأسسوا تجمع استيطاني يدعى يهودا وإسرائيل، ثم دحرت مستوطنة يهودا على يد البابليون بقيادة نبوخذ نصر الذي دمر مدينة القدس، ودمرت مستوطنة إسرائيل من قبل الآشوريين عام 733 ق. م، وفي عام 539ق. م تمكن كورش ملك الفرس من الاستيلاء على بابل وبلاد الشام وقد ساعده اليهود على ذلك فالتمسوا منه أن يذهبوا إلى القدس، فعاد منهم القليل وبقيت الأغلبية في بابل، ثم انتزعت القدس من أيدي الفرس عام 232ق. م ودخلت في حكم اليونان لمدة قرن ونصف، وفي عام 63 ق. م خضعت القدس لحكم الرومان حيث تخلل هذه الحقبة ميلاد المسيح في بيت لحم.
وفي العهد الروماني حاول بقايا اليهود ـ الذين أعادهم الفرس إلى القدس كطائفة دينية , استغلال هذه الصفة الممنوحة للطوائف الدينية لأغراض سياسية فقضى الرومان عليهم, وأصدر الإمبراطور الروماني مرسوماً يقضي بمنع تواجد اليهود في القدس تحت طائلة عقوبة الموت. وعندما تحولت الإمبراطورية الرومانية من الديانة الوثنية إلى المسيحية أمرت هيلانة والدة الإمبراطور قسطنطين ببناء كنيسة القيامة في القدس وتم إنجازها عام 335م.
وعاشت القدس بسلام إلى عام 614م, عندما هاجم الفرس الإمبراطورية الرومانية واحتلوا بلاد الشام مرة أخرى ودخلوا القدس وشارك إلى جانب الفرس آنذاك عدد غير قليل من اليهود. وتمكن هؤلاء اليهود من إشعال النار بكنيسة القيامة بعد أن قاموا بتدمير وسلب المدينة انتقاماً من المسيحيين.
ثم جاء الرومان ودحروا الفرس عن مدينة القدس في عام 627، ودام الحكم الروماني إلى عام 638م وكان هذا عام الفتح الإسلامي حيث دخل المسلمون فاتحين ومحررين لمدينة القدس من الغزو الروماني، وعادت القدس عربية إلى أن بدأت خيوط المؤامرة الدولية تنكشف عندما صدر وعد بلفور القاضي بتأسيس وطن قومي لليهود في فلسطين, وقد لعبت بريطانيا دوراً كبيراً في إدخال اليهود المهاجرين من أوطانهم إلى فلسطين, ومساعدتهم في السلاح، إلى أن صدر قرار تقسيم فلسطين وتدويل مدينة القدس نتيجة مؤامرة دولية على رأسها دول أوروبا وأمريكا، وقد رفض الشعب الفلسطيني هذا القرار رفضاً قاطعاً رغم افتقار هذا الشعب لأي دعم مادي أو عسكري أو معنوي، فقامت العصابات اليهودية شتيرن والأرغون والهاغاناه تساندها الكتائب اليهودية من الجيش البريطاني باحتلال الجزء الأكبر من فلسطين والقسم الغربي لمدينة القدس عام 1948م بعد أن ارتكبت هذه العصابات عشرات المذابح بحق الفلسطينيين وتهجير وطرد الآلاف من الشعب الفلسطيني إلى كافة أرجاء المعمورة, ولم تكتف بذلك, بل أعلنت هذه العصابات بأنها تمثل دولة تدعى إسرائيل وتم الاعتراف بها رغم مخالفتها لميثاق الأمم المتحدة وعدم التزامها بقرارات الشرعية الدولية، بل كشفت عن عدوانيتها التوسعية فاحتلت القسم الشرقي لمدينة القدس عام 1967م وأعلنت بأن القدس موحدة عاصمة إسرائيل الأبدية وصدرت القرارات اللاحقة من الجمعية العامة ومجلس الأمن, التي أكدت بعدم الاعتراف بالسيادة الإسرائيلية على مدينة القدس.
إن السيادة الإسرائيلية على مدينة القدس استندت على ادعاءات مخالفة للشرعية الدولية وقواعد القانون الدولي، بل تذرع الصهاينة بجميع الوسائل والحجج الدينية والشوفينية, وتوسلوا الرأي العام العالمي بأكذوبة المحرقة اليهودية في سبيل هضم حقوق الشعب الفلسطيني وسلخ مدينة القدس عن الوطن الأم فلسطين، فما هي هذه الادعاءات الإسرائيلية الباطلة: ـ
أ- الادعاء بالسيادة الإسرائيلية على القدس استناداً للحق التوراتي
إن إسرائيل لا تملك أي دليل أو إثبات لوجود سيادة دينية لها على مدينة القدس، والقانون الدولي العام يعتبر أن هذه الحجة سياسية أكثر منها قانونية, وإنها تعكس عقلية الهيمنة العنصرية التي ينطلق منها النظام السياسي للحكومات الإسرائيلية المتعاقبة، بل إن بعض القانونيين يذهبون إلى حد وصف الادعاءات السياسية الدينية بأنها ستار لأغراض توسعية عدوانية لدى القيادة الإسرائيلية، وإن هذا الادعاء لا يقوى على إضفاء الشرعية على تصرف الكيان الإسرائيلي إزاء مدينة القدس المحتلة, والمتمثل بخرق القاعدة الدولية القاضية بمنع استخدام القوة في مجال العلاقات الدولية لإحداث تغييرات إقليمية، إضافة إلى أن قواعد القانون الدولي التقليدية قد حددت منذ نشوئها في المجتمع الدولي مبادئ أساسية وقواعد ثابتة مقررة لاكتساب الملكية الإقليمية وحق السيادة عليها قانونياً وفعلياً وهي:
1- الملكية الأصلية للشعب وحكومته الذي يسكن الإقليم ويملكه, وهذه هي الملكية الصحيحة قانونياً وواقعياً.
2- الملكية المنقولة عن طريق الإقامة أو الاغتصاب أو الإلحاق, وهذه هي الملكية الواقعية التي رفضها المجتمع الدولي وألغى أسسها منذ قيام عصبة الأمم عام 1919م، ثم جاءت الأمم المتحدة وقررت حق السيادة والاستقلال وتقرير المصير لكل الشعوب في أوطانها. وما يلفت الانتباه أن الأسس والمبادئ والقواعد الدولية التي صقلها وقننها عهد عصبة الأمم وميثاق الأمم المتحدة جاءت خالية من أي مبدأ أو قاعدة تشير من قريب أو بعيد إلى العامل الديني أو التاريخي المجرد من المشروعية والملكية القانونية، كأساس للملكية الإقليمية أو لحق السيادة على هذا الإقليم، وإسرائيل نفسها لم تدع بأي وجود قانوني أو واقعي غير الادعاء الديني التوراتي لها في القدس بل إن محكمة العدل الإسرائيلية رفضت الاحتجاج بالادعاء الديني الذي تقدم به المستوطنون في مستوطنة إيلون موريه على أراضي قرية روجيب الفلسطينية كوسيلة للاستيلاء على الأرض الفلسطينية.
ولهذا يمكن القول أن اعتماد الصهيونية على عامل الدين سبباً لاغتصاب فلسطين, وجعل عاصمتهم القدس بغض النظر عن عامل الزمن والملكية والترابط التاريخي مجردين عن عوامل تكوين الأمم والأوطان القانونية, ما هو إلا تناقض فاضح مخالف لنظم المجتمع الدولي والأسس التي تقوم عليها معظم الدول في حاضرنا.
فإذا كانت الصهيونية استولت على القدس متذرعة بأنها كانت مهد الديانة اليهودية جاز إذن لأي شعب مسيحي اشترك في الحروب الصليبية في القرن الحادي عشر الميلادي أن يطالب بالاستيلاء على مدينة القدس لأنها أيضاً مهد المسيحية وقياساً على ذلك يجوز لمسلمي أندونيسيا أو أمريكا أن يدعوا بحق السيادة على القدس كونهم مسلمين، متجاهلين الشعب الفلسطيني صاحب السيادة على مدينة القدس، ولو طبقت نظرية الحق التاريخي المجرد حسب النظرية الصهيونية لما كان لدول أمريكا الشمالية وأسبانيا وغيرها من دول العالم حق ثابت في أراضيها التي تقوم عليها منذ مئات السنين، لأن هذه الأرض كانت في العصور الغابرة ملكاً لأقوام أخرى أو لأنها خضعت في فترة سابقة من التاريخ لحكم أقوام أخرى فاتحة أو غاصبة أو حاكمة، بل طبقاً لهذه النظرية يمكن للعرب أن يطالبوا بالسيادة على بلاد الهند والسند لأنهم حكموها مئات السنين. ولكن هذا التصور يخالف كل أحكام القانون الدولي وعوامل تكوين الأمم والذي يتعارض مع مقاصد الأمم المتحدة ومبادئها الأساسية.
والحقيقة الواضحة أن جميع أسفار العهد القديم والجديد التي لها مكانة دينية عالية لدى جميع الفئات اليهودية سواء إشكنازيم أو سفارديم لا تأتي على ذكر مدينة القدس مباشرة أو غير مباشرة لا من قريب أو من بعيد, بل إن كلمة القدس أو (أورشليم) لا وجود لها على الإطلاق، ولكن الواقع هو أن اليهود لا يملكون إرثاً دينياً أو تاريخياً بشكل حقيقي يمكن الركون إليه كباقي الديانات كالإسلامية مثلاً حيث ذكر في القرآن الكريم المسجد الأقصى بشكل واضح ونبَّه المسلمين إلى الصفة المباركة لمدينة القدس في الآية الكريمة {سبحان الذي أسرى بعبده من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى الذي باركنا حوله} صدق الله العظيم.
فكيف يمكن لليهودي أن يربط مدينة القدس بالتوراة التي تجاهلت ذكرها وقدسيتها. ومن هنا يغدو هذا الادعاء الديني المجرد باطل ولا مسوغ شرعي لوجوده في قواعد القانون الدولي العام.
تعليق