في ختام الشهر الحادي عشر للانتفاضة الفلسطينية المتجددة، في السابع والعشرين من آب 2001، أطلقت طائرات إسرائيلية أمريكية الصنع من طراز أباتشي صواريخها الفتاكة على مقر قيادة الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين في رام الله، مستهدفة جسد الأمين العام للجبهة، الجالس آنذاك إلى مكتبه، وأودت بحياته. فهل كان «أبو علي» مصطفى المنشغل بتصريف أعمال يومه المعتادة يتوقع أن يستهدفه هذا العدوان؟ وما هو السبب الذي حمل صانع القرار الإسرائيلي على استهداف هذا الرجل بالذات؟ هذا المقال يتوخى تلمس الإجابة على هذين السؤالين.
ما وقع قد وقع
يقينا أن الرجل الذي انهمك في العمل العام، سريّه وعلنيّه، مذ كان فتى، قد بقي في مركز الخطر منذ البداية. ويقينا أيضا، أن الخطر على حياة الرجل قد اشتد، منذ عودته الأخيرة إلى أرض الوطن في العام 1999، ثم اشتد أكثر مع اشتعال الانتفاضة وانهماكه في نشاطاتها، خصوصا منذ باشرت إسرائيل حملة اغتيال الناشطين الفلسطينيين في الأرض المحتلة، وقد أتيح لكاتب هذه السطور أن يلتقي الرجل في مكتبه ذاته الذي اغتيل فيه، وذلك قبل شهر ونصف من الاغتيال. وتطرق الحديث خلال اللقاء إلى موضوع الاغتيالات، فبدا أن الرجل المشهور بمثابرته على العمل، منذ الصباح الباكر حتى آخر المساء، لا يجهل الخطر الذي يكتنفه، هو شخصيا، كما يكتنف سواه. لكن هذا الإنسان المتمرس بمواجهة الخطر، لم يبلغ وقتها حد الاعتقاد، بأن أوان اغتياله قد حان.
فالاغتيالات، مثلها مثل كل وسائل الحرب التي تشنها إسرائيل على الشعب الفلسطيني، لها محددات، هي هذه التي ألف الخطاب السياسي تسميتها «الخطوط الحمر». ولئن صح أن حكومة أرييل شارون الإسرائيلية، كانت قبل اغتيال الأمين العام للجبهة الشعبية قد تجاوزت عددا من هذه الخطوط، فلم يكن في البال أنها بلغت حد اغتيال قائد من الصف السياسي الأول، له قامة «أبو علي» مصطفى ومكانته الوطنية والعربية والدولية. وحتى لو خطر في البال أن شيئا من هذا سوف يحدث، فإن وسائل الوقاية من الاغتيال ليست متيسرة بالدرجة التي قد يتصورها البعض ممن يجهلون واقع الحال في الأرض المحتلة. فالفلسطينيون في الأرض المحتلة كلهم، قادتهم وكوادرهم وناشطوهم والهادئون منهم، إن كان ثمة حقا، هادئون، واقعون، كلهم، في حقل رماية مكشوف، لآلة العدوان الإسرائيلية، مكشوف دون حماية يعتد بها، ولا مجال أمام أيما أحد للنجاة، إلا أن يغادر الأرض المحتلة. وغني عن البيان أن «أبو علي» مصطفى ليس من الناس الذين يفرون من ميدان المواجهة.
وبالإمكان استحضار ما قاله «أبو علي» نفسه في اللقاء الذي جرت الإشارة إليه، فقد ذكر الرجل إنه يتجنب مغادرة المنطقة (أ) ما أمكنه ذلك حتى لا يقع فريسة سهلة في أيدي جنود الحواجز الإسرائيلية والمستوطنين اليهود، وهذا هو الاحتياط الوحيد الذي تيسر حين لم يكن الاغتيال المقصود واردا في البال. وأيا ما كان عليه الأمر، فإن ما وقع قد وقع وانتهى الأمر. ولقد كانت الخسارة فادحة.
الذرائع الإسرائيلية
أما لماذا تجاوز صانع القرار الإسرائيلي الكوابح المحلية والعربية والدولية، التي تلجم يده وتحول بينه وبين اغتيال قائد فلسطيني، من وزن هذا القائد؟ أو لماذا جازف بتحدي الأوساط الواسعة التي تستنكر مثل هذا الاغتيال، وهي كوابح حقيقية وليست مفترضة افتراضا؟ فهذا سؤال يستحق التوقف عنده، لأن الإجابة الصحيحة عليه تساعد على التنبؤ السديد، ومعرفة ما قد يصل إليه قادة العدوان الإسرائيلي في مسلسل الاغتيالات.
وفي الإجابة على هذا السؤال، قد ينبغي أن نبدأ باستعراض الحجج التي أوردها المسؤولون الإسرائيليون، أنفسهم، والمتحدثون بأسمائهم لتسويغ اغتيال «أبو علي» مصطفى. فهؤلاء ركزوا أكثر ما ركزوا على دور عسكري نسبوه للرجل، واتهموه بأنه أشرف على تنظيم الهجمات المسلحة التي تشنها الجبهة الشعبية ضد عسكريين ومدنيين إسرائيليين.
وقد اشتط المتحدثون الإسرائيليون في الاتهام، فزعموا أن الرجل كان حين اغتياله منصرفا لتنظيم عمليات تستهدف حتى تلاميذ المدارس الإسرائيليين. وعندما بدا لهؤلاء أمام حملة الاستنكار الواسعة للاغتيال، أن ذرائعهم هذه ليست مقنعة، استحضر رئيس الحكومة شارون نفسه ذريعة أخرى، فذكر بموقف الجبهة الشعبية، وأمينها العام المعارض لاتفاق أوسلو الداعي إلى إسقاطه، وعدّ هذا تهمة، تسوغ الاغتيال.
ولئن كانت الذرائع المتصلة بنشاط عسكري، مما يمكن احتسابه تهما بالية، لكثرة ما أفرطت إسرائيل في استخدامها بالباطل أكثر مما بالحق، ثم لئن كانت تهمة استهداف التلاميذ بعيدة عن الواقع، حتى لقد اضطر مستخدموها أنفسهم إلى سحبها من التداول، فإن التذكير بموقف الجبهة وأمينها العام، ضد اتفاق أوسلو بدا في هذا السياق، خصوصا حين ورد على لسان شارون، بمثابة نكتة سمجة.
فما من أحد في هذا الكون عارض اتفاق أوسلو بمقدار ما عارضه شارون وفريقه، وما من أحد فتك بالعملية السياسية كلها بمقدار ما فتك بها شارون.
وإلى كل ما يظهر هشاشة الذرائع الإسرائيلية المدعاة، علنا، يمكن أن نضيف الحقائق المتصلة بقرار اغتيال «أبو علي» مصطفى. وقد يكفي أن نورد، في هذا المجال، الحقائق التي كشفها جدل المسؤولين الإسرائيليين أنفسهم حول القرار. فما تسرب من هذا الجدل عبر وسائل الإعلام الإسرائيلية، وغيرها، أظهر أن القرار اتخذ في المستوى السياسي الإسرائيلي، وليس الأمني، وقد انفرد باتخاذه رئيس الحكومة شارون ووزير الدفاع بنيامين بن أليعازر وحدهما. وهذا يعني، أن قرار اغتيال أمين عام الجبهة الشعبية، اتخذه الفريق في حكومة إسرائيل الذي يعمل بمنهجية مثابرة على تدمير العملية السلمية برمتها، وليس اتفاق أوسلو وحده، وهو الفريق ذاته الذي يعمل بالمنهجية ذاتها على تدمير الحركة الوطنية الفلسطينية، وإخلاء الطريق من العائق الأساس الذي يحول دون تحقيق حلم إسرائيل الكبرى. وليس غريبا، إذن، أن الفريق الذي انفرد باتخاذ قرار الاغتيال وتنفيذه، قد اتخذه ونفّذه من وراء ظهر الفرقاء الإسرائيليين الآخرين، الذين يتجنبون الدعوة إلى تدمير العملية السلمية، وفي هذا وحده حتى لو لم تتوفر دلائل أخرى، هي في واقع الأمر كثيرة، ما يظهر أن قرار اغتيال «أبو علي» مصطفى بالذات اتخذ بدوافع سياسية، لا لبس في انتسابها إلى السياسة وحدها.
فما الذي حمل فريق شارون، العازم على تدمير العملية السياسية، على اغتيال الأمين العام للجبهة التي يقول شارون ذاته، إنها تقف ضد هذه العملية؟
سيرة رجل، سيرة عامة
هذا السؤال يغري باستعراض سيرة «أبو علي» مصطفى، ودوره في مجرى العمل الوطني الفلسطيني. فهذه السيرة لا تستحق أن تدرس فقط، لتخلد في ذاكرة الأجيال، بل تستحق أن تدرس، أيضا، لأنها تنم عن السبب الذي حمل صانع القرار الإسرائيلي على تصفية صاحبها. وهي، في أي حال، سيرة رجل امتزجت حياته الشخصية امتزاجا كاملا بالحياة العامة، فقدمت إيجازا بليغا لمسيرة العمل الوطني الفلسطيني منذ العام 1948.
في العام 1938، في أبان اشتعال الثورة في المنطقة التي شهدت سلسلة من أشد وقائع الثورة الفلسطينية سخونة. وكان والد مصطفى واحدا من المجاهدين، الذين نظمهم في أوائل ثلاثينيات القرن العشرين شيخ الجهاد الفلسطيني الشيخ عز الدين القسام. وقد تشرب الوالد الأريج الثوري الذي عم البلاد، وذاق مرارة سجون الانتداب البريطاني، دون أن تثنيه عن الاستمرار في نشاطه الثوري، وكما وقع لكثيرين من أبناء جيله، تشرب الطفل مصطفى هذه الأجواء، وتمرس، منذ نشأته الأولى، بمكابدة الأهوال. وعندما حلت نكبة 1948 ووقعت «عرابة» قرب خط الهدنة، بما يقترن بهذا الوضع من منغصات لا حصر لها، وانحدرت أحوال الفلسطينيين إلى ما دون الصفر، توجب على ابن العاشرة أن يعمل مع أبيه في الزراعة، ليساهم في إعالة الأسرة. ثم عندما تعذر تدبير لقمة العيش دون تنغيص، انتقلت الأسرة إلى عمان، وذلك في العام 1950، أي بعد أن صارت الضفة الفلسطينية جزءا من المملكة الأردنية الهاشمية، وصار اسمها الضفة الغربية. وفي عمان، اضطر ابن الأثنتي عشرة سنة، إلى العمل في مهن شتى كانت كلها قاسية. وبهذا أيضا، وقع لمصطفى الزبري ما وقع لكثيرين من أبناء جيله: مكابدة قسوة النكبة ومرارات اللجوء والاضطرار إلى التوقف عن متابعة التعليم المدرسي، والالتحاق المبكر بسوق العمل القاسي حتى يتيح الفرصة لإخوانه الآخرين كي يواصلوا تعليمهم.
وقبل أن يبلغ الثامنة عشرة، التحق الفتى مصطفى بحركة القوميين العرب. كانت الحركة التي التحق هو بها في العام 1955، قد تجاوزت فترة نشأتها المضطربة، واتخذت مكانها بين الحركات الداعية إلى الوحدة العربية. وقد تميزت هذه الحركة عن غيرها بتركيزها الشديد على الثأر لما وقع لفلسطين والفلسطينيين على أيدي الصهيونيين اليهود، فيما تبنت ما تبناه العرب القوميون، من الدعوة إلى الوحدة العربي،ة واعتبار أن هذه الوحدة هي الطريق إلى تحرير فلسطين. وهكذا، انهمك الفتى في النضال على أشق الطرق، طريق الوحدة والتحرير. وكان مصطفى في العشرين من عمره حين اعتقل في الأردن على خلفية هذا النضال.
جرى هذا في العام 58، وهو العام الذي استكملت فيه الردة على منجزات العامين 56-57 الوطنية، ولوحق من بقي في البلاد من نشيطي أيام الإنجازات. ولقد كانت حصة مصطفى الزبري من عقابيل الردة كبيرة. فهو لم يغادر البلاد، كما غادرها ملاحقون كثيرون، بل بقي ليتابع النضال سرا، فتلقى حكما بالسجن لمدة خمس سنوات، وكانت تلك، على ما شهد به عارفوه، هي السنوات التي تصلب فيها عوده، واتسعت معرفته وتبلورت شخصيته القيادية، وتأسس استعداده الدائم للتضحية من أجل مبادئه.
جدل السياسي والمقاتل
هنا، قد يجدر أن نستحضر الجدل الذي انشغلت به الساحة العربية القومية، ومنها الفلسطينية، منذ تلك الفترة إلى ما بعد عدوان حزيران 1967. فمنذ أواخر خمسينيات القرن المنصرم، برزت الدعوة إلى استقلال العمل الوطني الفلسطيني عن العمل العربي الرسمي العام، وممارسة الكفاح المسلح لتحرير فلسطين، بمنأى عن موقف الدول العربية منه.
وقد تجسدت هذه الدعوة بنشوء «فتح» وجبهة التحرير الفلسطينية وفصائل أخرى عديدة أقل شأنا.
وكان في هذه الدعوة التي أسست لبداية الوطنية الفلسطينية المتجددة بعد النكبة، ما يتعارض مع دعوة حركة القوميين العرب المتماهية، آنذاك، مع الدعوة الناصرية إلى الوحدة العربية، ووضع مطلب تحقيق الوحدة على رأس سلم الأولويات القومية. كما كان في الدعوة إلى مباشرة الكفاح المسلح ضد إسرائيل ما يتعارض مع الموقف الناصري، إذ كان عبد الناصر ما يزال يناور بالدعوة إلى حل للقضية الفلسطينية في هدي قرارات الأمم المتحدة، ذات الصلة بها، ويعارض مباشرة الكفاح المسلح الشعبي، لأن فيه توريطا للدول العربية، قد يجرها إلى حرب مع إسرائيل، لم تستعد هذه الدول لها.
وغني عن البيان، أن حركة القوميين العرب، وهي الممثل الأول والأكبر للناصريين الفلسطينيين، قد انهمكت في هذا الجدل بكليتها، فدافعت عن أولوية الوحدة العربية، ووجدت نفسها بحكم ولائها الناصري في موقع المعترض على التعجل في مباشرة الكفاح الشعبي المسلح.
لم يعن هذا أن الحركة كانت ضد الكفاح المسلح، بل عنى، تحديدا، أنها رأت إرجاء مباشرته إلى أن تتوفر الظروف التي تأذن بتحقيق الانسجام بين دعوة الكفاح المسلح الشعبي وبين استعدادات الدول العربية لتحمل أعبائه. وهكذا، حمل موقف الحركة نوعا من التباين بينها وبين فصائل الكفاح المسلح الناشئة، وهو تباين كان آنذاك مركبا. فعواطف ناس الحركة، خصوصا الفلسطينيين منهم، كانت مع هذا الكفاح، وسياسة الحركة كانت تدعوهم إلى لجم هذه العواطف.
وعندما تأسست م.ت.ف في العام 1964، أيدت الحركة تأسيسها، وشارك ممثلو الحركة في هيئات م.ت.ف، القيادية والقاعدية. لكن الحركة لم تكف عن انتقاد وجوه، بعينها، في سياسة زعيم المنظمة أحمد الشقيري وسلوكه. وقد واظبت الحركة على الدعوة إلى تثوير المنظمة، إزاء ما عدته ولع الشقيري بالبيروقراطية. ومما لا شك فيه أن الدعوة إلى التثوير عنت حث المنظمة على الاستعداد للعمل المسلح، كي تنهمك فيه حين يحين أوانه.
أما إطلاق «فتح» رصاصتها الأولى، في العام 1965، فقد أجج التباين الذي جرت الإشارة إليه، وأحدث داخل الحركة بلبالا واضحا. وقد كان من المتعذر ألا يتبلبل الداعون إلى الثأر الفلسطيني، حين يتخذ غيرهم زمام المبادرة، بينما يجدون هم أنفسهم، محمولين على القعود.
احتدم الجدل فيما «أبو علي» مصطفى قابع في السجن. أما البلبال فقد واجهه الرجل، وهو في إبانه، فور خروجه من هذا السجن. ومما لا شك فيه أن الرجل كان قد تأثر وأثر في الجدل، حتى وهو مغيب في سجنه.
وما أن غادر «أبو علي» السجن حتى رجع إلى الوطن، وتولى مسؤولية فرع حركة القوميين العرب في شمال الضفة. ومن موقعه هذا، وبتأثير ميله إلى الدافعين في الحركة باتجاه الإعداد للكفاح المسلح ضد إسرائيل، ساهم، وقد صار شابا تام النضج، في تأسيس منظمة شباب الثأر، فشكل بذلك النوى التي ستتسع في ما بعد، وتباشر الكفاح المسلح. وعلى خلفية نشاطه، الذي فرضت طبيعته أن يكون جله سريا، اعتقلت السلطات الأردنية «أبو علي» مرة أخرى، في العام 1966، واقتاده معتقلوه إلى عمان، لكنه لم يقدم هذه المرة إلى أي محاكمة ولم تمتد فترة اعتقاله لأكثر من ثلاثة شهور، عاد الرجل بعدها إلى ما كان فيه.
وفي العام 1967، عندما وقعت الحرب في حزيران، واحتلت إسرائيل الضفة وقطاع غزة وغيرهما، كان «أبو علي» موجودا في الضفة، فأقام في رام الله تحت الأرض، وانصرف إلى تنظيم مقاومة حركة القوميين العرب للاحتلال الإسرائيلي، فور وقوعه، وهو الذي أشرف على إعداد خلايا المقاومة المسلحة الأولى ودفعها إلى العمل.
لقد حسم وقوع عدوان حزيران 1967 بلبال حركة القوميين العرب، بشأن مباشرة الكفاح المسلح مثلما أسقط العدوان تحفظات الزعامة الناصرية على أي من مباشريه، وتهيأت الفرصة لـ«أبو علي» كما لغيره، كي ينطلق في هذا الاتجاه بغير كوابح. وقد لعب «أبو علي» دورا متميزا في تأسيس الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، بما هي فصيل مسلح فدائي، اتخذت الحركة المبادرة إلى تأسيسه. وكان «أبو علي» بين الذين تبنوا التوجه إلى تشكيل جبهة وطنية، لا تقتصر العضوية فيها على أعضاء حركة القوميين العرب وحدهم. ولقد انهمك هو نفسه في الحوار مع الأطراف الأخرى. وانتهى الأمر، كما هو معروف، إلى أن تضم الجبهة الشعبية، عند صدور البيان الأول الذي يعلن تأسيسها في أواخر العام 1967، التنظيم الفلسطيني للحركة ومنظمتي شباب الثأر وأبطال العودة وجبهة التحرير الفلسطينية، التي كان الضابط الفلسطيني في الجيش السوري أحمد جبريل، قد شرع في إنشائها منذ العام 1959. وإلى هؤلاء، أمكن أن تجتذب الجبهة عددا من الضباط الناصريين المسرحين من الجيش السوري أو غيره، وبعض الشخصيات المستقلة. ولئن لم تستمر الجبهة، بهذا التشكيل، زمنا طويلا فلأسباب يطول شرحها. وقد انتهى الأمر إلى خروج جبهة التحرير الفلسطينية من هذا التشكيل ومتابعتها العمل باسم الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، وتمييز نفسها عن الجبهة الأم، بإضافة كلمتي «القيادة العامة» إلى هذا الاسم.
في م.ت.ف
وفي العام 1968، في عهد رئاسة المحامي يحيى حمودة لمنظمة التحرير الفلسطينية، خلفا مؤقتا للشقيري الذي استقال، اتجهت فصائل العمل الفدائي إلى العمل للهيمنة على م.ت.ف. وتشكل مجلس وطني فلسطيني، ممثل لهذه الفصائل وأنصارها الكثيرين، وصار للجبهة الشعبية نصيب فيه. ومنذ ذلك الوقت، كفت الجبهة عن الأمل بأن تصير، هي ذاتها، جبهة للجميع، إذ أن هذا الدور تولته م.ت.ف. وفي هذه التطورات والحوارات التي اقترنت بها على اتساع الساحة الوطنية الفلسطينية كلها، لعب «أبو علي» مصطفى دورا متميزا أيضا، فضلا عن تولي مسؤولية العمل العسكري للجبهة.
في غضون ذلك، وبتأثير صدمتها بهزيمة الأنظمة، التي يتصدرها النظام الناصري في مصر، أمام إسرائيل، كما بتأثير عوامل أخرى بالطبع، اتجهت حركة القوميين العرب إلى تمييز نفسها عن التيار الناصري، واتخذت موقفا نقديا حادا من نظام عبد الناصر، كما من غيره من الأنظمة الوطنية المماثلة. ودخلت الجبهة في خصومة حادة مع النظام البعثي في سوريا. ونجم من هذه الخصومة أن اعتقلت سلطات الأمن السورية الدكتور جورج حبش الأمين العام للجبهة. وبغياب الأمين العام، زادت مسؤوليات «أبو علي» مصطفى السياسية، بالإضافة إلى استمراره في المسؤولية عن العمل العسكري.
وبالإضافة إلى الخصومة مع سورية، وربما بتأثيرها أيضا، كما بتأثير أطراف أخرى منافسة للجبهة الشعبية، وبتأثير عوامل وتفاعلات أخرى عديدة، قديمة أو مستجدة، شهدت الجبهة في وقت مبكر، بعد تأسيسها، صراعات داخلية حادة، جرى بعضها بالسلاح. وانتهى الأمر باستقلال الفريق الذي تزعمه القومي العربي الأردني نايف حواتمة، عن الجبهة الشعبية، وتأسيسه فصيلا فدائيا، اتخذ اسم: الجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين. وفي شباط 1969، عقدت الجبهة مؤتمرها العام، وهو الذي كرس زعامة جورج حبش في وجه مناوئيه. وتكرست قيادة «أبو علي» لعمل الجبهة العسكري، دون أن يقل دوره في العمل السياسي، وخصوصا في الحوار مع الأطراف الأخرى. والواقع أن «أبو علي» كان في طليعة الذين دعوا، في الجبهة، إلى عدم التمييز بين السياسي والمقاتل. وفي مؤتمر الجبهة العام الثالث، هذا الذي انعقد في العام 1972، صار للجبهة نظام داخلي جديد، نص فيه، على أن كل عضو سياسي في الجبهة، هو مقاتل، مثلما أن كل مقاتل هو عضو سياسي. وكان لـ«أبو علي» دور بارز في إقرار هذا النظام. وهذا هو المؤتمر العام الذي اختار الرجل، نائبا للأمين العام للجبهة، أي لموقع سياسي بدل موقعه العسكري.
شغل «أبو علي» منصب النائب، إذن، منذ العام 1972، وقد ظل يشغله حتى العام 1999، فهي إذن، قرابة ثلاثة عقود متصلة، ترك الرجل خلالها بصمات عميقة على حياة جبهته، والحياة الفلسطينية العامة. ومنذ العام 1991، تولى أبو علي معظم مسؤوليات الأمين العام لأن المرض حال بين د. حبش وبين توليها بنفسه. وهكذا جاء انتخاب مؤتمر الجبهة في العام 1999 لـ«أبو علي» أمينا عاما، بمثابة تحصيل حاصل. وفي غضون هذه المدة وقبلها وبعدها، ظل «أبو علي» عضوا في المجلس الوطني الفلسطيني، وعضوا في اللجنة المركزية لـ م.ت.ف، منذ تأسيسها في العام 1970 وعضوا في المجلس المركزي منذ تأسيسه، في العام 1973. وفي العام 1978، انتخب «أبو علي» مصطفى عضوا في اللجنة التنفيذية، وظل فيها حتى العام 1991، حين اقتضى مرض الأمين العام للجبهة أن يتولى، هو نائبه، مزيدا من المسؤوليات فيها، فاضطر إلى التخلي عن عضوية اللجنة التنفيذية.
وفي حياته كلها، امتاز الرجل بالصدق واستقامة السلوك، ونظافة اليد واللسان، كما امتاز بتخصيصه وقته وجهده كلهما للعمل العام. وإذا استحضر أيما فلسطيني، أيا كان لونه السياسي، أسماء القادة الذين حظوا بالاحترام من مؤيديهم ومخالفيهم على حد سواء، فلا بد من أن يرد اسم «أبو علي» مصطفى في المقدمة. والأمر لا يتعلق هنا بتوفر الاحترام، وحده، بل بما أمكن للرجل أن يفعله بسبب تمتعه بهذه المزية. وغني عن البيان أن تمتع أي قائد بالصدقية، بشكل عاملا ذا تأثير كبير في زيادة فعاليته في العمل العام.
وعلى مدى هذه السنين والعقود، ظل «أبو علي» رجل حوار وطني من الطراز الأول. فإذا أخذنا في الحسبان تعقيدات الساحة الفلسطينية، وكثرة عوامل الفرقة والتنابذ فيها، فسندرك في نحو أجلى، أهمية وجود قادة يغلّبون نهج الحوار على نهج التخاصم. ولقد كان «أبو علي» واحدا من هؤلاء، ولن نقع في المبالغة، إن قلنا إنه كان بين أكثرهم تأثيرا في استعادة وحدة الساحة الوطنية كلما مزقتها دواعي الفرقة. لقد كان في الساحة رجلان يمكن أن ينوّه بدوريهما في هذا المجال: صلاح خلف (أبو إياد) في فريق الأغلبية ومصطفى الزبري (أبو علي) في الفريق الآخر. هذا القول لا يراد به نفي أدوار الآخرين، في المجال ذاته. فقد وقف كثير من القادة في الفريقين، كما وقفت أغلبية الجمهور، ضد تسبب خلافات الرأي والاجتهاد في أي اقتتال، لكنها المناسبة التي توجب استقصاء دوافع إسرائيل لاغتيال أبي علي.
مزاج القاعدة يبقى في القمة
ولمتابعة الاستقصاء، لنأخذ ما أقدم عليه «أبو علي» منذ صار رجل الجبهة الشعبية الأول، دون منازع. هنا، يجدر التنويه، بأن الرجل جاء إلى هذا الموقع بعد أن توفرت له خبرة عميقة ومديدة في الاضطلاع بمسؤوليات قيادية من الدرجة الأولى، وهو يكاد يكون الوحيد، بين الأمناء العامين للفصائل الفلسطينية الفدائية، الذي تمتع بهذه الميزة. فإذا أضفنا ميزته هذه إلى المزايا الأخرى، أمكن أن نفهم كيف اختير «أبو علي» لموقع الأمانة العامة، ليس من أجل ملء فراغ طرأ، أو الموازنة بين تكتلات لم تتفق على سواه، بل تتويجا لتطورات تفاعلت على مدى سنوات، وكان له هو دور كبير في الحفز عليها، ودفع جبهته في اتجاهها.
بهذا المعنى، سيصح القول بأن «أبو علي» كان رجلا أول، حتى قبل أن يشغل الموقع التنظيمي الأول. وبأولويته، حتى حين كان في الموقع التنظيمي الثاني، تميز «أبو علي» بحرصه الشديد على دوره محاورا وطنيا. وقد تجلت أهمية هذا الدور، أشد ما تجلت، في السنوات العشر الأخيرة. فانقسام الصف الوطني إثر توقيع قيادة م.ت.ف، أو فريق الأغلبية في هذه القيادة، على اتفاق أوسلو، كان من شأنه أن يؤيد التنابذ بين قابلي الاتفاق ورافضيه.
ولقد جرت بالفعل محاولات جادة لإنشاء قيادة وطنية موازية، تصطرع مع قيادة م.ت.ف، التي وقعت على الاتفاق، غير أن وجود قادة في الفريق المعارض لهم طبيعة «أبو علي» الحوارية، ووجوده، هو بالذات، في موقع التأثير على سياسة جبهته وغيرها، لعبا دورا حاسما في التقليل من أذى التنابذ، وإعادة الاعتبار إلى نهج التحاور.
وبمزاياه كلها، ما تحدثنا عنه منها وما أغفلناه، شق مصطفى الزبري طريقه من القاعدة الشعبية الفقيرة، التي أنبتته إلى قمة القيادة. فعل الرجل هذا بمثابرته على النضال وتضحياته وحرصه على تطوير ثقافته، هو الذي حرمه من متابعة التعليم الأكاديمي، دون أن يفقد في مراحل تطوره كلها إحساسه بمزاج القاعدة، وحاجاتها وقيمها، ودون أن يفقده وجوده في القمة تواضعه الأصيل.
ومن المؤكد عليه، أن رجل الشعبية الحواري قد فعل الكثير، في السنوات الأخيرة، لإطفاء العنعنات ودعوات التنابذ. وفي هذا السياق خطا «أبو علي» خطوة، كان الأمين العام السابق قد أبى أن يخطوها، فانتقل من الشتات إلى الوطن المحتل، ونقل مركز الثقل في قيادة الجبهة من الخارج إلى الداخل. لم تفتن «أبو علي» الدعاوى السابقة حول التعارض بين انتقاله، إلى حيث يهيمن النظام الناشئ بموجب اتفاق أوسلو، وبين معارضة الجبهة لهذا الاتفاق، وقد جاء الرجل إلى الأرض المحتلة، فجاء معه وعيه الوطني المتفتح وخبرته وثباته على المبادئ، وبانتقاله إلى الداخل، أتم «أبو علي» إحلال نهج التحاور مع «فتح»، وغيرها، من مؤيدي اتفاق أوسلو، محل التخاصم. وكان هذا واحدا من أهم الإنجازات، التي لا لبس في انتسابها إلى مزايا الرجل وحكمته.
وفي الوطن، كما كان الشأن في الشتات، انصرف «أبو علي» مع رفاقه المقيمين فيه، ورفاقه الذين رجعوا إليه، إلى ترتيب أوضاع الجبهة الشعبية، وتوسيع علاقاتها بمحيطها، وتنمية دورها في العمل العام وتجويد وسائلها. وقد ساعد هذا كله، على تعبئة القوى المعرضة لاتفاق أوسلو في اتجاه أكثر واقعية وأكثر نجاعة. وبإمكان أيما معني بالأمر، أن يشهد أن «أبو علي» حقق في هذه المجالات، جميعها، انجازات يعتد بها، دون أن يفرط بالمبادئ، أو تهن معارضته لما اعترض عليه.
الحال أن الجبهة الشعبية كانت الفصيل الوحيد، من فصائل م.ت.ف، المعارضة الذي اتسعت شعبيته، وزادت فعاليته على الأرض منذ العام 1999، ومن المؤكد عليه، وفق المعطيات المشاهدة جميعها، أن منجزات أخرى كانت على الطريق، لقد مزج الرجل بين متطلبات الواقعية السياسية، وبين الثبات على المبادئ وكان من نتائج هذا أن تكرس موقع الجبهة، بوصفها القوة الثانية بين القوى الممثلة في م.ت.ف، أو الثالثة في الساحة كلها، إن أدخلنا «حماس» في حساب القوى. ولم يقتصر الأمر على تثبيت هذه المكانة، بل اشتمل أيضا، على تضييق مضطرد في الفجوة بين مكانة الجبهة، ومكانة من يسبقها في الترتيب.
فهل نحتاج إلى كثير من الاستقصاء كي نستخلص السبب الذي حمل شارون على تصفية هذا القائد.
لقد امتزجت سيرة الرجل بمسيرة الحركة الوطنية، وتطورت مع تطورها وتأثرت بها، وأثرت فيها تأثيرا عميقا. وبتطوير وعيه ونهجه في حرارة التجربة واجتذابه جبهته إلى أخذ عبرها في الحسبان والانفتاح على الآخرين، صار «أبو علي» مصطفى ركنا من أركان العمل الوطني الفلسطيني، ركنا صلبا يمكن الوثوق به. وما دامت حكومة شارون تستهدف اجتثاث الحركة الوطنية الفلسطينية وإسلام الجمهور إلى الاستكانة والضياع، فلم يكن غريبا أن تتجاوز هذه الحكومة، أي كوابح وأي خطوط حمراء، لتجتث هذا الجذر المتميز من الجذور الفلسطينية.
إن فقد الساحة الفلسطينية لمصطفى الزبري يشكل خسارة لن ينفع التعزي في التقليل من حجمها. أما وقد وقع ما وقع، فللجهود الرامية إلى التعويض، أن تتجه نحو تقليل تأثير هذه الخسارة على الجبهة، وعلى مجمل العمل الوطني. والأمل في هذا المجال معقود على استمرار النهج الذي اختطه القائد الراحل.
ما وقع قد وقع
يقينا أن الرجل الذي انهمك في العمل العام، سريّه وعلنيّه، مذ كان فتى، قد بقي في مركز الخطر منذ البداية. ويقينا أيضا، أن الخطر على حياة الرجل قد اشتد، منذ عودته الأخيرة إلى أرض الوطن في العام 1999، ثم اشتد أكثر مع اشتعال الانتفاضة وانهماكه في نشاطاتها، خصوصا منذ باشرت إسرائيل حملة اغتيال الناشطين الفلسطينيين في الأرض المحتلة، وقد أتيح لكاتب هذه السطور أن يلتقي الرجل في مكتبه ذاته الذي اغتيل فيه، وذلك قبل شهر ونصف من الاغتيال. وتطرق الحديث خلال اللقاء إلى موضوع الاغتيالات، فبدا أن الرجل المشهور بمثابرته على العمل، منذ الصباح الباكر حتى آخر المساء، لا يجهل الخطر الذي يكتنفه، هو شخصيا، كما يكتنف سواه. لكن هذا الإنسان المتمرس بمواجهة الخطر، لم يبلغ وقتها حد الاعتقاد، بأن أوان اغتياله قد حان.
فالاغتيالات، مثلها مثل كل وسائل الحرب التي تشنها إسرائيل على الشعب الفلسطيني، لها محددات، هي هذه التي ألف الخطاب السياسي تسميتها «الخطوط الحمر». ولئن صح أن حكومة أرييل شارون الإسرائيلية، كانت قبل اغتيال الأمين العام للجبهة الشعبية قد تجاوزت عددا من هذه الخطوط، فلم يكن في البال أنها بلغت حد اغتيال قائد من الصف السياسي الأول، له قامة «أبو علي» مصطفى ومكانته الوطنية والعربية والدولية. وحتى لو خطر في البال أن شيئا من هذا سوف يحدث، فإن وسائل الوقاية من الاغتيال ليست متيسرة بالدرجة التي قد يتصورها البعض ممن يجهلون واقع الحال في الأرض المحتلة. فالفلسطينيون في الأرض المحتلة كلهم، قادتهم وكوادرهم وناشطوهم والهادئون منهم، إن كان ثمة حقا، هادئون، واقعون، كلهم، في حقل رماية مكشوف، لآلة العدوان الإسرائيلية، مكشوف دون حماية يعتد بها، ولا مجال أمام أيما أحد للنجاة، إلا أن يغادر الأرض المحتلة. وغني عن البيان أن «أبو علي» مصطفى ليس من الناس الذين يفرون من ميدان المواجهة.
وبالإمكان استحضار ما قاله «أبو علي» نفسه في اللقاء الذي جرت الإشارة إليه، فقد ذكر الرجل إنه يتجنب مغادرة المنطقة (أ) ما أمكنه ذلك حتى لا يقع فريسة سهلة في أيدي جنود الحواجز الإسرائيلية والمستوطنين اليهود، وهذا هو الاحتياط الوحيد الذي تيسر حين لم يكن الاغتيال المقصود واردا في البال. وأيا ما كان عليه الأمر، فإن ما وقع قد وقع وانتهى الأمر. ولقد كانت الخسارة فادحة.
الذرائع الإسرائيلية
أما لماذا تجاوز صانع القرار الإسرائيلي الكوابح المحلية والعربية والدولية، التي تلجم يده وتحول بينه وبين اغتيال قائد فلسطيني، من وزن هذا القائد؟ أو لماذا جازف بتحدي الأوساط الواسعة التي تستنكر مثل هذا الاغتيال، وهي كوابح حقيقية وليست مفترضة افتراضا؟ فهذا سؤال يستحق التوقف عنده، لأن الإجابة الصحيحة عليه تساعد على التنبؤ السديد، ومعرفة ما قد يصل إليه قادة العدوان الإسرائيلي في مسلسل الاغتيالات.
وفي الإجابة على هذا السؤال، قد ينبغي أن نبدأ باستعراض الحجج التي أوردها المسؤولون الإسرائيليون، أنفسهم، والمتحدثون بأسمائهم لتسويغ اغتيال «أبو علي» مصطفى. فهؤلاء ركزوا أكثر ما ركزوا على دور عسكري نسبوه للرجل، واتهموه بأنه أشرف على تنظيم الهجمات المسلحة التي تشنها الجبهة الشعبية ضد عسكريين ومدنيين إسرائيليين.
وقد اشتط المتحدثون الإسرائيليون في الاتهام، فزعموا أن الرجل كان حين اغتياله منصرفا لتنظيم عمليات تستهدف حتى تلاميذ المدارس الإسرائيليين. وعندما بدا لهؤلاء أمام حملة الاستنكار الواسعة للاغتيال، أن ذرائعهم هذه ليست مقنعة، استحضر رئيس الحكومة شارون نفسه ذريعة أخرى، فذكر بموقف الجبهة الشعبية، وأمينها العام المعارض لاتفاق أوسلو الداعي إلى إسقاطه، وعدّ هذا تهمة، تسوغ الاغتيال.
ولئن كانت الذرائع المتصلة بنشاط عسكري، مما يمكن احتسابه تهما بالية، لكثرة ما أفرطت إسرائيل في استخدامها بالباطل أكثر مما بالحق، ثم لئن كانت تهمة استهداف التلاميذ بعيدة عن الواقع، حتى لقد اضطر مستخدموها أنفسهم إلى سحبها من التداول، فإن التذكير بموقف الجبهة وأمينها العام، ضد اتفاق أوسلو بدا في هذا السياق، خصوصا حين ورد على لسان شارون، بمثابة نكتة سمجة.
فما من أحد في هذا الكون عارض اتفاق أوسلو بمقدار ما عارضه شارون وفريقه، وما من أحد فتك بالعملية السياسية كلها بمقدار ما فتك بها شارون.
وإلى كل ما يظهر هشاشة الذرائع الإسرائيلية المدعاة، علنا، يمكن أن نضيف الحقائق المتصلة بقرار اغتيال «أبو علي» مصطفى. وقد يكفي أن نورد، في هذا المجال، الحقائق التي كشفها جدل المسؤولين الإسرائيليين أنفسهم حول القرار. فما تسرب من هذا الجدل عبر وسائل الإعلام الإسرائيلية، وغيرها، أظهر أن القرار اتخذ في المستوى السياسي الإسرائيلي، وليس الأمني، وقد انفرد باتخاذه رئيس الحكومة شارون ووزير الدفاع بنيامين بن أليعازر وحدهما. وهذا يعني، أن قرار اغتيال أمين عام الجبهة الشعبية، اتخذه الفريق في حكومة إسرائيل الذي يعمل بمنهجية مثابرة على تدمير العملية السلمية برمتها، وليس اتفاق أوسلو وحده، وهو الفريق ذاته الذي يعمل بالمنهجية ذاتها على تدمير الحركة الوطنية الفلسطينية، وإخلاء الطريق من العائق الأساس الذي يحول دون تحقيق حلم إسرائيل الكبرى. وليس غريبا، إذن، أن الفريق الذي انفرد باتخاذ قرار الاغتيال وتنفيذه، قد اتخذه ونفّذه من وراء ظهر الفرقاء الإسرائيليين الآخرين، الذين يتجنبون الدعوة إلى تدمير العملية السلمية، وفي هذا وحده حتى لو لم تتوفر دلائل أخرى، هي في واقع الأمر كثيرة، ما يظهر أن قرار اغتيال «أبو علي» مصطفى بالذات اتخذ بدوافع سياسية، لا لبس في انتسابها إلى السياسة وحدها.
فما الذي حمل فريق شارون، العازم على تدمير العملية السياسية، على اغتيال الأمين العام للجبهة التي يقول شارون ذاته، إنها تقف ضد هذه العملية؟
سيرة رجل، سيرة عامة
هذا السؤال يغري باستعراض سيرة «أبو علي» مصطفى، ودوره في مجرى العمل الوطني الفلسطيني. فهذه السيرة لا تستحق أن تدرس فقط، لتخلد في ذاكرة الأجيال، بل تستحق أن تدرس، أيضا، لأنها تنم عن السبب الذي حمل صانع القرار الإسرائيلي على تصفية صاحبها. وهي، في أي حال، سيرة رجل امتزجت حياته الشخصية امتزاجا كاملا بالحياة العامة، فقدمت إيجازا بليغا لمسيرة العمل الوطني الفلسطيني منذ العام 1948.
في العام 1938، في أبان اشتعال الثورة في المنطقة التي شهدت سلسلة من أشد وقائع الثورة الفلسطينية سخونة. وكان والد مصطفى واحدا من المجاهدين، الذين نظمهم في أوائل ثلاثينيات القرن العشرين شيخ الجهاد الفلسطيني الشيخ عز الدين القسام. وقد تشرب الوالد الأريج الثوري الذي عم البلاد، وذاق مرارة سجون الانتداب البريطاني، دون أن تثنيه عن الاستمرار في نشاطه الثوري، وكما وقع لكثيرين من أبناء جيله، تشرب الطفل مصطفى هذه الأجواء، وتمرس، منذ نشأته الأولى، بمكابدة الأهوال. وعندما حلت نكبة 1948 ووقعت «عرابة» قرب خط الهدنة، بما يقترن بهذا الوضع من منغصات لا حصر لها، وانحدرت أحوال الفلسطينيين إلى ما دون الصفر، توجب على ابن العاشرة أن يعمل مع أبيه في الزراعة، ليساهم في إعالة الأسرة. ثم عندما تعذر تدبير لقمة العيش دون تنغيص، انتقلت الأسرة إلى عمان، وذلك في العام 1950، أي بعد أن صارت الضفة الفلسطينية جزءا من المملكة الأردنية الهاشمية، وصار اسمها الضفة الغربية. وفي عمان، اضطر ابن الأثنتي عشرة سنة، إلى العمل في مهن شتى كانت كلها قاسية. وبهذا أيضا، وقع لمصطفى الزبري ما وقع لكثيرين من أبناء جيله: مكابدة قسوة النكبة ومرارات اللجوء والاضطرار إلى التوقف عن متابعة التعليم المدرسي، والالتحاق المبكر بسوق العمل القاسي حتى يتيح الفرصة لإخوانه الآخرين كي يواصلوا تعليمهم.
وقبل أن يبلغ الثامنة عشرة، التحق الفتى مصطفى بحركة القوميين العرب. كانت الحركة التي التحق هو بها في العام 1955، قد تجاوزت فترة نشأتها المضطربة، واتخذت مكانها بين الحركات الداعية إلى الوحدة العربية. وقد تميزت هذه الحركة عن غيرها بتركيزها الشديد على الثأر لما وقع لفلسطين والفلسطينيين على أيدي الصهيونيين اليهود، فيما تبنت ما تبناه العرب القوميون، من الدعوة إلى الوحدة العربي،ة واعتبار أن هذه الوحدة هي الطريق إلى تحرير فلسطين. وهكذا، انهمك الفتى في النضال على أشق الطرق، طريق الوحدة والتحرير. وكان مصطفى في العشرين من عمره حين اعتقل في الأردن على خلفية هذا النضال.
جرى هذا في العام 58، وهو العام الذي استكملت فيه الردة على منجزات العامين 56-57 الوطنية، ولوحق من بقي في البلاد من نشيطي أيام الإنجازات. ولقد كانت حصة مصطفى الزبري من عقابيل الردة كبيرة. فهو لم يغادر البلاد، كما غادرها ملاحقون كثيرون، بل بقي ليتابع النضال سرا، فتلقى حكما بالسجن لمدة خمس سنوات، وكانت تلك، على ما شهد به عارفوه، هي السنوات التي تصلب فيها عوده، واتسعت معرفته وتبلورت شخصيته القيادية، وتأسس استعداده الدائم للتضحية من أجل مبادئه.
جدل السياسي والمقاتل
هنا، قد يجدر أن نستحضر الجدل الذي انشغلت به الساحة العربية القومية، ومنها الفلسطينية، منذ تلك الفترة إلى ما بعد عدوان حزيران 1967. فمنذ أواخر خمسينيات القرن المنصرم، برزت الدعوة إلى استقلال العمل الوطني الفلسطيني عن العمل العربي الرسمي العام، وممارسة الكفاح المسلح لتحرير فلسطين، بمنأى عن موقف الدول العربية منه.
وقد تجسدت هذه الدعوة بنشوء «فتح» وجبهة التحرير الفلسطينية وفصائل أخرى عديدة أقل شأنا.
وكان في هذه الدعوة التي أسست لبداية الوطنية الفلسطينية المتجددة بعد النكبة، ما يتعارض مع دعوة حركة القوميين العرب المتماهية، آنذاك، مع الدعوة الناصرية إلى الوحدة العربية، ووضع مطلب تحقيق الوحدة على رأس سلم الأولويات القومية. كما كان في الدعوة إلى مباشرة الكفاح المسلح ضد إسرائيل ما يتعارض مع الموقف الناصري، إذ كان عبد الناصر ما يزال يناور بالدعوة إلى حل للقضية الفلسطينية في هدي قرارات الأمم المتحدة، ذات الصلة بها، ويعارض مباشرة الكفاح المسلح الشعبي، لأن فيه توريطا للدول العربية، قد يجرها إلى حرب مع إسرائيل، لم تستعد هذه الدول لها.
وغني عن البيان، أن حركة القوميين العرب، وهي الممثل الأول والأكبر للناصريين الفلسطينيين، قد انهمكت في هذا الجدل بكليتها، فدافعت عن أولوية الوحدة العربية، ووجدت نفسها بحكم ولائها الناصري في موقع المعترض على التعجل في مباشرة الكفاح الشعبي المسلح.
لم يعن هذا أن الحركة كانت ضد الكفاح المسلح، بل عنى، تحديدا، أنها رأت إرجاء مباشرته إلى أن تتوفر الظروف التي تأذن بتحقيق الانسجام بين دعوة الكفاح المسلح الشعبي وبين استعدادات الدول العربية لتحمل أعبائه. وهكذا، حمل موقف الحركة نوعا من التباين بينها وبين فصائل الكفاح المسلح الناشئة، وهو تباين كان آنذاك مركبا. فعواطف ناس الحركة، خصوصا الفلسطينيين منهم، كانت مع هذا الكفاح، وسياسة الحركة كانت تدعوهم إلى لجم هذه العواطف.
وعندما تأسست م.ت.ف في العام 1964، أيدت الحركة تأسيسها، وشارك ممثلو الحركة في هيئات م.ت.ف، القيادية والقاعدية. لكن الحركة لم تكف عن انتقاد وجوه، بعينها، في سياسة زعيم المنظمة أحمد الشقيري وسلوكه. وقد واظبت الحركة على الدعوة إلى تثوير المنظمة، إزاء ما عدته ولع الشقيري بالبيروقراطية. ومما لا شك فيه أن الدعوة إلى التثوير عنت حث المنظمة على الاستعداد للعمل المسلح، كي تنهمك فيه حين يحين أوانه.
أما إطلاق «فتح» رصاصتها الأولى، في العام 1965، فقد أجج التباين الذي جرت الإشارة إليه، وأحدث داخل الحركة بلبالا واضحا. وقد كان من المتعذر ألا يتبلبل الداعون إلى الثأر الفلسطيني، حين يتخذ غيرهم زمام المبادرة، بينما يجدون هم أنفسهم، محمولين على القعود.
احتدم الجدل فيما «أبو علي» مصطفى قابع في السجن. أما البلبال فقد واجهه الرجل، وهو في إبانه، فور خروجه من هذا السجن. ومما لا شك فيه أن الرجل كان قد تأثر وأثر في الجدل، حتى وهو مغيب في سجنه.
وما أن غادر «أبو علي» السجن حتى رجع إلى الوطن، وتولى مسؤولية فرع حركة القوميين العرب في شمال الضفة. ومن موقعه هذا، وبتأثير ميله إلى الدافعين في الحركة باتجاه الإعداد للكفاح المسلح ضد إسرائيل، ساهم، وقد صار شابا تام النضج، في تأسيس منظمة شباب الثأر، فشكل بذلك النوى التي ستتسع في ما بعد، وتباشر الكفاح المسلح. وعلى خلفية نشاطه، الذي فرضت طبيعته أن يكون جله سريا، اعتقلت السلطات الأردنية «أبو علي» مرة أخرى، في العام 1966، واقتاده معتقلوه إلى عمان، لكنه لم يقدم هذه المرة إلى أي محاكمة ولم تمتد فترة اعتقاله لأكثر من ثلاثة شهور، عاد الرجل بعدها إلى ما كان فيه.
وفي العام 1967، عندما وقعت الحرب في حزيران، واحتلت إسرائيل الضفة وقطاع غزة وغيرهما، كان «أبو علي» موجودا في الضفة، فأقام في رام الله تحت الأرض، وانصرف إلى تنظيم مقاومة حركة القوميين العرب للاحتلال الإسرائيلي، فور وقوعه، وهو الذي أشرف على إعداد خلايا المقاومة المسلحة الأولى ودفعها إلى العمل.
لقد حسم وقوع عدوان حزيران 1967 بلبال حركة القوميين العرب، بشأن مباشرة الكفاح المسلح مثلما أسقط العدوان تحفظات الزعامة الناصرية على أي من مباشريه، وتهيأت الفرصة لـ«أبو علي» كما لغيره، كي ينطلق في هذا الاتجاه بغير كوابح. وقد لعب «أبو علي» دورا متميزا في تأسيس الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، بما هي فصيل مسلح فدائي، اتخذت الحركة المبادرة إلى تأسيسه. وكان «أبو علي» بين الذين تبنوا التوجه إلى تشكيل جبهة وطنية، لا تقتصر العضوية فيها على أعضاء حركة القوميين العرب وحدهم. ولقد انهمك هو نفسه في الحوار مع الأطراف الأخرى. وانتهى الأمر، كما هو معروف، إلى أن تضم الجبهة الشعبية، عند صدور البيان الأول الذي يعلن تأسيسها في أواخر العام 1967، التنظيم الفلسطيني للحركة ومنظمتي شباب الثأر وأبطال العودة وجبهة التحرير الفلسطينية، التي كان الضابط الفلسطيني في الجيش السوري أحمد جبريل، قد شرع في إنشائها منذ العام 1959. وإلى هؤلاء، أمكن أن تجتذب الجبهة عددا من الضباط الناصريين المسرحين من الجيش السوري أو غيره، وبعض الشخصيات المستقلة. ولئن لم تستمر الجبهة، بهذا التشكيل، زمنا طويلا فلأسباب يطول شرحها. وقد انتهى الأمر إلى خروج جبهة التحرير الفلسطينية من هذا التشكيل ومتابعتها العمل باسم الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، وتمييز نفسها عن الجبهة الأم، بإضافة كلمتي «القيادة العامة» إلى هذا الاسم.
في م.ت.ف
وفي العام 1968، في عهد رئاسة المحامي يحيى حمودة لمنظمة التحرير الفلسطينية، خلفا مؤقتا للشقيري الذي استقال، اتجهت فصائل العمل الفدائي إلى العمل للهيمنة على م.ت.ف. وتشكل مجلس وطني فلسطيني، ممثل لهذه الفصائل وأنصارها الكثيرين، وصار للجبهة الشعبية نصيب فيه. ومنذ ذلك الوقت، كفت الجبهة عن الأمل بأن تصير، هي ذاتها، جبهة للجميع، إذ أن هذا الدور تولته م.ت.ف. وفي هذه التطورات والحوارات التي اقترنت بها على اتساع الساحة الوطنية الفلسطينية كلها، لعب «أبو علي» مصطفى دورا متميزا أيضا، فضلا عن تولي مسؤولية العمل العسكري للجبهة.
في غضون ذلك، وبتأثير صدمتها بهزيمة الأنظمة، التي يتصدرها النظام الناصري في مصر، أمام إسرائيل، كما بتأثير عوامل أخرى بالطبع، اتجهت حركة القوميين العرب إلى تمييز نفسها عن التيار الناصري، واتخذت موقفا نقديا حادا من نظام عبد الناصر، كما من غيره من الأنظمة الوطنية المماثلة. ودخلت الجبهة في خصومة حادة مع النظام البعثي في سوريا. ونجم من هذه الخصومة أن اعتقلت سلطات الأمن السورية الدكتور جورج حبش الأمين العام للجبهة. وبغياب الأمين العام، زادت مسؤوليات «أبو علي» مصطفى السياسية، بالإضافة إلى استمراره في المسؤولية عن العمل العسكري.
وبالإضافة إلى الخصومة مع سورية، وربما بتأثيرها أيضا، كما بتأثير أطراف أخرى منافسة للجبهة الشعبية، وبتأثير عوامل وتفاعلات أخرى عديدة، قديمة أو مستجدة، شهدت الجبهة في وقت مبكر، بعد تأسيسها، صراعات داخلية حادة، جرى بعضها بالسلاح. وانتهى الأمر باستقلال الفريق الذي تزعمه القومي العربي الأردني نايف حواتمة، عن الجبهة الشعبية، وتأسيسه فصيلا فدائيا، اتخذ اسم: الجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين. وفي شباط 1969، عقدت الجبهة مؤتمرها العام، وهو الذي كرس زعامة جورج حبش في وجه مناوئيه. وتكرست قيادة «أبو علي» لعمل الجبهة العسكري، دون أن يقل دوره في العمل السياسي، وخصوصا في الحوار مع الأطراف الأخرى. والواقع أن «أبو علي» كان في طليعة الذين دعوا، في الجبهة، إلى عدم التمييز بين السياسي والمقاتل. وفي مؤتمر الجبهة العام الثالث، هذا الذي انعقد في العام 1972، صار للجبهة نظام داخلي جديد، نص فيه، على أن كل عضو سياسي في الجبهة، هو مقاتل، مثلما أن كل مقاتل هو عضو سياسي. وكان لـ«أبو علي» دور بارز في إقرار هذا النظام. وهذا هو المؤتمر العام الذي اختار الرجل، نائبا للأمين العام للجبهة، أي لموقع سياسي بدل موقعه العسكري.
شغل «أبو علي» منصب النائب، إذن، منذ العام 1972، وقد ظل يشغله حتى العام 1999، فهي إذن، قرابة ثلاثة عقود متصلة، ترك الرجل خلالها بصمات عميقة على حياة جبهته، والحياة الفلسطينية العامة. ومنذ العام 1991، تولى أبو علي معظم مسؤوليات الأمين العام لأن المرض حال بين د. حبش وبين توليها بنفسه. وهكذا جاء انتخاب مؤتمر الجبهة في العام 1999 لـ«أبو علي» أمينا عاما، بمثابة تحصيل حاصل. وفي غضون هذه المدة وقبلها وبعدها، ظل «أبو علي» عضوا في المجلس الوطني الفلسطيني، وعضوا في اللجنة المركزية لـ م.ت.ف، منذ تأسيسها في العام 1970 وعضوا في المجلس المركزي منذ تأسيسه، في العام 1973. وفي العام 1978، انتخب «أبو علي» مصطفى عضوا في اللجنة التنفيذية، وظل فيها حتى العام 1991، حين اقتضى مرض الأمين العام للجبهة أن يتولى، هو نائبه، مزيدا من المسؤوليات فيها، فاضطر إلى التخلي عن عضوية اللجنة التنفيذية.
وفي حياته كلها، امتاز الرجل بالصدق واستقامة السلوك، ونظافة اليد واللسان، كما امتاز بتخصيصه وقته وجهده كلهما للعمل العام. وإذا استحضر أيما فلسطيني، أيا كان لونه السياسي، أسماء القادة الذين حظوا بالاحترام من مؤيديهم ومخالفيهم على حد سواء، فلا بد من أن يرد اسم «أبو علي» مصطفى في المقدمة. والأمر لا يتعلق هنا بتوفر الاحترام، وحده، بل بما أمكن للرجل أن يفعله بسبب تمتعه بهذه المزية. وغني عن البيان أن تمتع أي قائد بالصدقية، بشكل عاملا ذا تأثير كبير في زيادة فعاليته في العمل العام.
وعلى مدى هذه السنين والعقود، ظل «أبو علي» رجل حوار وطني من الطراز الأول. فإذا أخذنا في الحسبان تعقيدات الساحة الفلسطينية، وكثرة عوامل الفرقة والتنابذ فيها، فسندرك في نحو أجلى، أهمية وجود قادة يغلّبون نهج الحوار على نهج التخاصم. ولقد كان «أبو علي» واحدا من هؤلاء، ولن نقع في المبالغة، إن قلنا إنه كان بين أكثرهم تأثيرا في استعادة وحدة الساحة الوطنية كلما مزقتها دواعي الفرقة. لقد كان في الساحة رجلان يمكن أن ينوّه بدوريهما في هذا المجال: صلاح خلف (أبو إياد) في فريق الأغلبية ومصطفى الزبري (أبو علي) في الفريق الآخر. هذا القول لا يراد به نفي أدوار الآخرين، في المجال ذاته. فقد وقف كثير من القادة في الفريقين، كما وقفت أغلبية الجمهور، ضد تسبب خلافات الرأي والاجتهاد في أي اقتتال، لكنها المناسبة التي توجب استقصاء دوافع إسرائيل لاغتيال أبي علي.
مزاج القاعدة يبقى في القمة
ولمتابعة الاستقصاء، لنأخذ ما أقدم عليه «أبو علي» منذ صار رجل الجبهة الشعبية الأول، دون منازع. هنا، يجدر التنويه، بأن الرجل جاء إلى هذا الموقع بعد أن توفرت له خبرة عميقة ومديدة في الاضطلاع بمسؤوليات قيادية من الدرجة الأولى، وهو يكاد يكون الوحيد، بين الأمناء العامين للفصائل الفلسطينية الفدائية، الذي تمتع بهذه الميزة. فإذا أضفنا ميزته هذه إلى المزايا الأخرى، أمكن أن نفهم كيف اختير «أبو علي» لموقع الأمانة العامة، ليس من أجل ملء فراغ طرأ، أو الموازنة بين تكتلات لم تتفق على سواه، بل تتويجا لتطورات تفاعلت على مدى سنوات، وكان له هو دور كبير في الحفز عليها، ودفع جبهته في اتجاهها.
بهذا المعنى، سيصح القول بأن «أبو علي» كان رجلا أول، حتى قبل أن يشغل الموقع التنظيمي الأول. وبأولويته، حتى حين كان في الموقع التنظيمي الثاني، تميز «أبو علي» بحرصه الشديد على دوره محاورا وطنيا. وقد تجلت أهمية هذا الدور، أشد ما تجلت، في السنوات العشر الأخيرة. فانقسام الصف الوطني إثر توقيع قيادة م.ت.ف، أو فريق الأغلبية في هذه القيادة، على اتفاق أوسلو، كان من شأنه أن يؤيد التنابذ بين قابلي الاتفاق ورافضيه.
ولقد جرت بالفعل محاولات جادة لإنشاء قيادة وطنية موازية، تصطرع مع قيادة م.ت.ف، التي وقعت على الاتفاق، غير أن وجود قادة في الفريق المعارض لهم طبيعة «أبو علي» الحوارية، ووجوده، هو بالذات، في موقع التأثير على سياسة جبهته وغيرها، لعبا دورا حاسما في التقليل من أذى التنابذ، وإعادة الاعتبار إلى نهج التحاور.
وبمزاياه كلها، ما تحدثنا عنه منها وما أغفلناه، شق مصطفى الزبري طريقه من القاعدة الشعبية الفقيرة، التي أنبتته إلى قمة القيادة. فعل الرجل هذا بمثابرته على النضال وتضحياته وحرصه على تطوير ثقافته، هو الذي حرمه من متابعة التعليم الأكاديمي، دون أن يفقد في مراحل تطوره كلها إحساسه بمزاج القاعدة، وحاجاتها وقيمها، ودون أن يفقده وجوده في القمة تواضعه الأصيل.
ومن المؤكد عليه، أن رجل الشعبية الحواري قد فعل الكثير، في السنوات الأخيرة، لإطفاء العنعنات ودعوات التنابذ. وفي هذا السياق خطا «أبو علي» خطوة، كان الأمين العام السابق قد أبى أن يخطوها، فانتقل من الشتات إلى الوطن المحتل، ونقل مركز الثقل في قيادة الجبهة من الخارج إلى الداخل. لم تفتن «أبو علي» الدعاوى السابقة حول التعارض بين انتقاله، إلى حيث يهيمن النظام الناشئ بموجب اتفاق أوسلو، وبين معارضة الجبهة لهذا الاتفاق، وقد جاء الرجل إلى الأرض المحتلة، فجاء معه وعيه الوطني المتفتح وخبرته وثباته على المبادئ، وبانتقاله إلى الداخل، أتم «أبو علي» إحلال نهج التحاور مع «فتح»، وغيرها، من مؤيدي اتفاق أوسلو، محل التخاصم. وكان هذا واحدا من أهم الإنجازات، التي لا لبس في انتسابها إلى مزايا الرجل وحكمته.
وفي الوطن، كما كان الشأن في الشتات، انصرف «أبو علي» مع رفاقه المقيمين فيه، ورفاقه الذين رجعوا إليه، إلى ترتيب أوضاع الجبهة الشعبية، وتوسيع علاقاتها بمحيطها، وتنمية دورها في العمل العام وتجويد وسائلها. وقد ساعد هذا كله، على تعبئة القوى المعرضة لاتفاق أوسلو في اتجاه أكثر واقعية وأكثر نجاعة. وبإمكان أيما معني بالأمر، أن يشهد أن «أبو علي» حقق في هذه المجالات، جميعها، انجازات يعتد بها، دون أن يفرط بالمبادئ، أو تهن معارضته لما اعترض عليه.
الحال أن الجبهة الشعبية كانت الفصيل الوحيد، من فصائل م.ت.ف، المعارضة الذي اتسعت شعبيته، وزادت فعاليته على الأرض منذ العام 1999، ومن المؤكد عليه، وفق المعطيات المشاهدة جميعها، أن منجزات أخرى كانت على الطريق، لقد مزج الرجل بين متطلبات الواقعية السياسية، وبين الثبات على المبادئ وكان من نتائج هذا أن تكرس موقع الجبهة، بوصفها القوة الثانية بين القوى الممثلة في م.ت.ف، أو الثالثة في الساحة كلها، إن أدخلنا «حماس» في حساب القوى. ولم يقتصر الأمر على تثبيت هذه المكانة، بل اشتمل أيضا، على تضييق مضطرد في الفجوة بين مكانة الجبهة، ومكانة من يسبقها في الترتيب.
فهل نحتاج إلى كثير من الاستقصاء كي نستخلص السبب الذي حمل شارون على تصفية هذا القائد.
لقد امتزجت سيرة الرجل بمسيرة الحركة الوطنية، وتطورت مع تطورها وتأثرت بها، وأثرت فيها تأثيرا عميقا. وبتطوير وعيه ونهجه في حرارة التجربة واجتذابه جبهته إلى أخذ عبرها في الحسبان والانفتاح على الآخرين، صار «أبو علي» مصطفى ركنا من أركان العمل الوطني الفلسطيني، ركنا صلبا يمكن الوثوق به. وما دامت حكومة شارون تستهدف اجتثاث الحركة الوطنية الفلسطينية وإسلام الجمهور إلى الاستكانة والضياع، فلم يكن غريبا أن تتجاوز هذه الحكومة، أي كوابح وأي خطوط حمراء، لتجتث هذا الجذر المتميز من الجذور الفلسطينية.
إن فقد الساحة الفلسطينية لمصطفى الزبري يشكل خسارة لن ينفع التعزي في التقليل من حجمها. أما وقد وقع ما وقع، فللجهود الرامية إلى التعويض، أن تتجه نحو تقليل تأثير هذه الخسارة على الجبهة، وعلى مجمل العمل الوطني. والأمل في هذا المجال معقود على استمرار النهج الذي اختطه القائد الراحل.