أبو غربية يروي شهادته عن نكبة فلسطين
أبو غربية عايش الثورات الفلسطينية منذ عام 1936
تشكل شهادة المناضل الفلسطيني بهجة أبو غربية عن النكبة تأريخا حيا لمنعطف أساسي في القضية الفلسطينية ودور المقاومة المسلحة والشعبية، ودور الجيوش العربية في حرب فلسطين.
وتمثل التفاصيل المتعددة التي قدمها أبو غربية (93 عاما) للجزيرة نت عن مقدمات النكبة وقرار التقسيم وثيقة هامة في تاريخ فلسطين الحديث خصوصا وأنه عايش الثورات الفلسطينية منذ عام 1936 إلى يومنا.
وفي ما يلي الحوار الكامل مع المناضل الفلسطيني.
بداية لو حدثتنا أستاذ بهجت عن مقدمات ما قبل النكبة، خاصة بدايات عام 1947 عندما ظهرت بوادر قرار التقسيم؟
في سنة 1939 أصدرت بريطانيا بيانا سياسيا عرف باسم الكتاب الأبيض، كان البيان قرارا بريطانيا بوقف الهجرة اليهودية لفلسطين، وبالنسبة لنا كان إعلانا يمكن التلاعب فيه، لكنه بالنسبة للحركة الصهيونية كان إعلانا خطيرا كونه سيوقف المشروع الصهيوني.
وهذا أدى لأن يجن جنون اليهود الذين شنوا حربا على بريطانيا في فلسطين وقاموا بعمليات عسكرية واسعة وأذلوا الإنجليز في بعض الحالات، واستمر ذلك في الأربعينات، وهذا الوضع أشعرنا بالخطر، واستمر ذلك حتى شهر فبراير/شباط عام 1947 عندما أعلنت بريطانيا أنها ستتخلى عن الانتداب على فلسطين، وتعيد القضية للأمم المتحدة، وهذا معناه أنه عندما يخرج الإنجليز ستتجه هذه العمليات الإرهابية العسكرية الصهيونية ضدنا، وتملأ الفراغ وهذا أشعرنا بالخطر الشديد.
ومنذ ذلك الوقت بدأنا نتحرك، خاصة عبر الهيئة العربية العليا بقيادة الحاج أمين الحسيني، وبشكل أخص كان عبد القادر الحسيني ينظم مقاومة في حال انتهاء الانتداب البريطاني وتوجه الإرهاب اليهودي نحونا.
كانت الظروف صعبة ومع ذلك نظمنا بعض صفوف المقاومة، وكان عبد القادر الحسيني رحمه الله على علاقة منذ عام 1936 بشخصيات نضالية كثيرة بدأ الاتصال بها، وأنا شخصيا قابلته في أبريل/نيسان عام 1947، وتمكنا من الترتيب للمقاومة المسلحة في القدس، رغم أن القوانين البريطانية كانت تحكم بالإعدام على من يحوز السلاح في ذلك الوقت.
وكان عبد القادر الحسيني ينوي جمع الأسلحة من مخلفات الحرب في ليبيا، وهذا للأسف تأخر جدا، أنا كانت مهمتي في القدس وكان هناك أشخاص موزعون على كافة مدن فلسطين.
"
لم يكن هناك أي جهاز مركزي فلسطيني يقوم على التسليح، وكل ما كان يجري هو محاولات فردية فقط
"
هل هناك أسماء تحضرك في هذه اللحظة؟
يحضرني الشيخ حسن سلامة في منطقة يافا، وصبحي شاهين في منطقة طبريا وحيفا، وهناك أسماء كثيرة لا تحضرني الآن، ومن هؤلاء الناس أعيد تشكيل جيش الجهاد المقدس، في القدس مثلا بدأنا بجمع الأسلحة بشكل متواضع لأننا كنا نجمع المال من جيوبنا.
ألم يكن هناك دعم أو تبن من أي جهة أو دولة؟
لم يكن هناك أي جهاز مركزي فلسطيني يقوم على التسليح، وكل ما كان يجري هو محاولات فردية فقط، لكن الحاج أمين الحسيني طرح على جامعة الدول العربية اقتراحا يقضي بإنشاء حكومة فلسطينية لتملأ الفراغ بعد انتهاء الانتداب البريطاني في فلسطين في 15 مايو/أيار عام 1947، وهذا رفض من قبل الجامعة العربية للأسف من ناحية سياسية.
كيف فسرتم قرار جامعة الدول العربية في حينها خاصة أنه قرار قد ينظر إليه على أنه خطير في تلك المرحلة؟
الجامعة فسرت القرار صراحة أنه إرضاء للأردن والعراق، لأن البلدين مانعتا ذلك وأنت تعلم أن قرارات الجامعة العربية تصدر بالإجماع.
أنا وغيري من السياسيين في ذلك الوقت كنا نعلم أنه في شهر أبريل/نيسان عام 1947 ذهب توفيق أبو الهدى رئيس وزراء شرق الأردن إلى بريطانيا برفقة كلوب باشا أو العكس، واجتمع مع بيرين رئيس الحكومة البريطانية في ذلك الوقت، واتفقوا على أن تضاف حصة التقسيم بالنسبة للعرب لشرق الأردن، وأن لا يجري قتال بين الجيش الأردني والهاغاناة والعراق كان السند الرئيسي لسيطرة الأردن على الضفة الغربية، صدر قرار التقسيم عام 1947 ورفضناه.
لماذا رفضتموه؟ هناك من يعتبر هذا الرفض خطأ تاريخيا، ما رأيك؟
شعبيا كان ذلك مرفوض قطعيا لأسباب كثيرة، ورفضته الهيئة العربية العليا، والدول العربية أيضا، نحن كنا نعتقد أن كلمة تقسيم كلمة سياسية للتضليل، والهدف كان إقامة دولة يهودية في فلسطين، والسؤال كان يجب أن يقال لماذا رفضتم قيام دولة يهودية في فلسطين؟
اليهود كانوا لا يملكون من فلسطين في ذلك الوقت سوى 5.6% من أرض فلسطين، والتقسيم كان سيعطيهم 51% من هذه الأرض.
كان مرفوضا من حيث المبدأ أن نقبل قيام دولة يهودية على أرض فلسطين، لا يمكن أن يكون ذلك مقبولا بالنسبة لنا، وبالتأكيد كان ذلك سيتم على حساب التهجير، وكان من الواضح أن التهجير سيتم بالمذابح، اليهود كانوا ينفذون مذابح ممنهجة لتنفيذ التهجير، ثم كان معلوما أن التقسيم هو بداية موطىء القدم لليهود لينطلقوا في مشروعهم نحو الأردن وغيره من الدول العربية.
هناك أمر منسي وهو أنه في ثورة 1937 وتحديدا في العام نفسه صدر قرار تقسيم من بريطانيا بالتقسيم ورفضناه وقاومناه مما دفع بريطانيا لسحبه، إذن كان لنا أمل بإسقاط القرار الجديد، خاصة أننا كنا نعرف أن الجيوش العربية ستكون معنا هذه المرة.
وهناك سبب آخر، وهو أنه عندما قررت بريطانيا إنهاء الانتداب، شكلت لجنة من الأمم المتحدة، لتدرس ماذا ستعمل الأمم المتحدة عندما ينتهي الانتداب.
اللجنة درست الموضوع لأشهر وفي النهاية وصلت لقرارين، قرار أغلبية يقضي بالتقسيم، وقرار أقلية كان ينادي باستقلال فلسطين بالموجودين عربا ويهودا، وهذا كان لصالحنا لأننا كنا نشكل الأغلبية وهذا ضد مصالح اليهود،
أي أنه كان هناك أمل في الأمم المتحدة.
"
الحاج أمين الحسيني طرح على جامعة الدول العربية اقتراحا يقضي بإنشاء حكومة فلسطينية لتملأ الفراغ بعد انتهاء الانتداب البريطاني في فلسطين في 15 مايو/أيار عام 1947، وهذا رفض من قبل الجامعة العربية للأسف من ناحية سياسية.
"
وبالفعل عندما صدر قرار التقسيم عام 1947 كانت هناك معارضة شديدة، والرئيس الأميركي هاري ترومان أجل التصويت عدة أيام، وقام برشوة دول وتهديد دول أخرى ليحصل على الأغلبية.
وأنا أعتقد حتى اليوم أن قرارنا كان صحيحا، لأنه لو قبلنا قرار التقسيم لكان المجال مفتوحا أمام اليهود لاستكمال مشروعهم.
ماذا حدث بعد أن صدر قرار التقسيم؟
اليهود كانوا يعرفون أوضاعنا فبدؤوا القتال فورا، في القدس بدؤوا بعد صدور القرار بخمسة أيام بعمليات حربية من خلال إطلاق النار على الأحياء العربية، وكان وضعنا كمقاومة انتظاري وتنظيمي وننتظر وصول الأسلحة ومع ذلك كانت مقاومتنا مستميتة، بينما لم يكن اليهود واثقين من أنفسهم.
وحصل شيء تاريخي يؤكد ذلك، وهو أنه نتيجة لهذه الاشتباكات تمت محاصرة مائتي ألف يهودي في القدس، وقاموا بالرد عبر عمليات إرهابية كبيرة، وقمنا بالرد بشيء أشد عبر نسف شارع بن يهودا، وشارع الوكالة اليهودية، وهي مقر الحكومة اليهودية، ومحاصرة الحي اليهودي والقسم الغربي من القدس، والطريق الرابط بين القدس ويافا تم قطعها تماما.
في هذه الفترة وحتى 19 مارس/آذار عام 1948 أعلن ران أوستن ممثل الولايات المتحدة في الأمم المتحدة علانية اقتراحا يقول إن الولايات المتحدة لم تعد متمسكة بقرار التقسيم، وتقترح على الأمم المتحدة وضع فلسطين تحت الوصاية المؤقتة.
إذن المقاومة جاءت بنتائج؟
نعم المقاومة أتت بنتائج مهمة، ووافق على الاقتراح بريطانيا وفرنسا والصين، وهي الدول المؤسسة للأمم المتحدة، وهؤلاء ضغطوا على ترومان، وحتى شهر نيسان من عام 1948 كانت الكفة ترجح لصالحنا ليس فقط في القدس وإنما في فلسطين كلها، لكن ابتداء من أبريل/نيسان من نفس العام بدأت الكفة ترجح لصالح اليهود.
ما الذي حدث حتى تنقلب موازين الحرب؟
وصل اليهود دعم عسكري كبير جدا، أما نحن فوصلتنا إمدادات بسيطة جدا.
من أبرز الجهات التي كانت تساعدكم ولو بالقليل؟
الأسلحة التي وصلتنا على قسمين، قسم بجهود محلية بواسطة جمع النقود وشراء أسلحة من مهربين من الأردن، والقسم الثاني كان يتم من خلال الهيئة العربية العليا التي أوصلت لنا أسلحة من مصر وجاءتنا بعض الأسلحة من لبنان أيضا.
أين كانت الجامعة العربية وجيش الإنقاذ في تلك المرحلة؟
الجامعة العربية شكلت لجنة عسكرية لإدارة القتال في فلسطين، وكان على رأسها طه باشا الهاشمي، وإسماعيل صفوت، وهما عراقيان، وضمت اللجنة آخرين، وتم تشكيل جيش الإنقاذ، لكنهم حاولوا منع عبد القادر الحسيني من دخول فلسطين، وفي اتفاق عقده الحاج أمين الحسيني مع الجامعة العربية تمت الموافقة على دخول عبد القادر على أن تكون مسؤوليته في القدس فقط، وأن يكون الضبط والربط العسكري عبر اللجنة العربية التي كان مقرها سوريا.
طبعا عبد القادر الحسيني لم يتقيد بهذه القيود من جانب الدول العربية، وفي هذه المرحلة مالت الكفة لصالح اليهود، ومن المصائب التي حدثت أن اليهود شردوا كافة القرى العربية من حيفا حتى تل أبيب، وعندنا في القدس حدثت معركة القسطل التي استشهد فيها عبد القادر الحسيني وهذه كانت نكبة جديدة علينا.
في هذه الفترة حدثت معارك رفعت المعنويات، منها معركتا القدس وبيت لحم ولم ينقذ اليهود من المعركتين سوى الجيش البريطاني.
"
الشباب الذين تطوعوا في جيش الإنقاذ هم شباب عرب وفلسطينيون متحمسون للقتال والشهادة، سواء العسكريون أو غيرهم، لكن اللجنة العسكرية أخذت فترة لتنظيم الجيش وتدريبه في قطنا قرب دمشق، وكانت مهمة هذا الجيش محددة.
"
أمام هذا التقهقر الذي عانيتم منه ماذا كان دور جيش الإنقاذ الذي دفعت به الدول العربية لحماية فلسطين؟
الشباب الذين تطوعوا في هذا الجيش هم شباب عرب وفلسطينيون متحمسون للقتال والشهادة، سواء العسكريون أو غيرهم، لكن اللجنة العسكرية أخذت فترة لتنظيم الجيش وتدريبه في قطنا قرب دمشق، وكانت مهمة هذا الجيش محددة.
وأطلعني الشيخ أمين الحسيني شخصيا على وثيقة هي عبارة عن اتفاقية بين اللجنة العسكرية وبريطانيا على كيفية ودور الجيش داخل فلسطين، لأن جيش الإنقاذ كان سيدخل من الأردن، وفي تلك الفترة كان كلوب باشا هو الحاكم الفعلي للأردن، والشروط كانت تقتضي أن لا يتخطى جيش الإنقاذ حدود التقسيم، أي أن الخطة العامة هي تثبيت التقسيم وحماية حصة العرب منها.
ما يؤكد هذه الوثيقة أن جيش الإنقاذ عندما دخل عسكر في مناطق جبع وجنين، وكان لا يتدخل في القتال، ومن الأدلة على ذلك أن حيفا، التي كانت الميناء الرئيسي لفلسطين، كانت قريبة جدا من جنين، وأي عسكري يجب أن يسبق للسيطرة على الميناء، لكن الجيش رفض التحرك للسيطرة على حيفا.
كما أنه كان هناك تذمر من قبل المتطوعين في الجيش من الأوامر التي كانت تعطى لهم، وأنا شخصيا جاءتني دفعتان من المقاتلين المتطوعين في جيش الإنقاذ يطلبون الانضمام لجيش الجهاد المقدس، لكن عبد القادر الحسيني طلب مني أن أعتذر لهم لأنه لم يكن يريد المزيد من المشاكل مع جيش الإنقاذ.
أضف إلى ما سبق أن كافة المساعدات العسكرية كانت توجه لجيش الإنقاذ، كما أن كل الشباب الذي تم جمعهم لجيش الإنقاذ أصبح وضعهم كوضع الجيوش العربية، أي أن إرادتهم كانت مرهونة للقرارات السياسية لهذه الجيوش، أما نحن فكانت إرادتنا بيدنا، والمتطوعون لا ذنب لهم في كل ذلك.
ودليل إخلاصهم أنهم خاضوا معارك كبرى، منها معركة الزراعة التي هاجم فيها الجيش مستعمرة هناك، ونجحوا فيها وكادوا يحتلون المستعمرة لولا تدخل الإنجليز.
لو انتقلنا لتاريخ 15/5/1948 وهو تاريخ النكبة وإعلان قيام دولة إسرائيل، ماذا حدث في ذلك اليوم وما بعده على الصعيد الشعبي والعسكري؟
في 15 مايو/أيار كانت معنوياتنا عالية، على أمل أننا وقفنا في موقف دفاعي، والآن الجيوش العربية قادمة فسنأخذ موقفا هجوميا، لكن للأسف هذا الأمل خاب وأثر على معنوياتنا كثيرا.
ما حصل بالنسبة للقدس مثلا يوم الجمعة 14 من نفس الشهر ليلا وصل الجيش الأردني لمنطقة الخان الأحمر على مشارف المدينة وتوقف هناك، وهنا أشير إلى حقيقة تاريخية، في كتاب للواء صالح صادق الشرع، وهو لواء في الجيش الأردني، يقول إنه قبل 15 مايو/أيار بيوم جمع كلوب باشا -القائد البريطاني للجيش الأردني- قيادات الجيش في الأغوار وأصدر أمرا للجيش بالدخول والوقوف على خطوط التقسيم، نحن كنا نعول على الجيش العراقي والجيش الأردني والمصري، أما سوريا فلم يكن لها جيش في تلك الفترة، وكبار ضباطها تم توجيههم لجيش الإنقاذ في تلك.
الجيش الأردني كان مستعدا لأن يقف على خطوط التقسيم بناء على اتفاق مسبق بين الضباط البريطانيين في الجيش الأردني وقادة العصابات الصهيونية، وهو اتفاق كشف عنه في مراجع تاريخية موثقة.
دخول الجيش الأردني للقدس تأخر حتى تاريخ 19 مايو/أيار 1948 وكان يمكن أن تسقط القدس في أي لحظة، لأن بن غوريون كان يلح على السيطرة على كل القدس كما ظهر في مذكراته.
وما منع اليهود من ذلك هو وجودنا في القدس إضافة لوجود كتيبة من جيش الإنقاذ بقيادة فاضل رشيد وهو ضابط عراقي، وكان يساعده ضابطان سوريان وكان معهم في الكتيبة الشيخ مصطفى السباعي رئيس الإخوان المسلمين في سوريا، والذي كان على رأس مقاتلي الإخوان، وكانوا جميعا مرابطين في القدس، وكان المقاتلون في هذه الكتيبة جيدين، ولكن الإمكانات محدودة جدا لكننا جميعا كنا نقاوم مقاومة انتحارية فلم نكن نفكر إلا بالانتصار أو الموت.
"
الضباط والجنود الأردنيون والعراقيون كانوا قادمين للقتال والموت لكن الأوامر والذخيرة والعتاد بيد الإنجليز، والقادة حتى الصغار منهم كانوا إنجليزا، وهؤلاء أوامرهم كانت بضربنا لكن الجنود والضباط الأردنيين كانوا يخالفون الأوامر في كثير من الأحيان
"
عندما دخل الجيش الأردني تعززت معنوياتنا وإمكانياتنا، لكن خاب أملنا بأننا لن نهاجم اليهود، والجيش خاض معارك قوية في البلدة القديمة للقدس وحقق انتصارات، ولكن كل ذلك في المناطق العربية حسب قرار التقسيم.
في يوم دخول الجيش اشتركت أنا والمناضلون مع الجيش الأردني في معركة وأصبت بأربع رصاصات، والتقيت بالضابط محمد المعايطة وتعاونا على احتلال بعض المواقع وتعزيز مواقع أخرى، وكانت النتيجة مثمرة منذ اليوم الأول.
هذا التعاون كان مخالفا ربما لتوجيهات الضباط البريطانيين؟
الضباط والجنود الأردنيون والعراقيون كانوا قادمين للقتال والموت لكن الأوامر والذخيرة والعتاد بيد الإنجليز، والقادة حتى الصغار منهم كانوا إنجليزا، وهؤلاء أوامرهم كانت بضربنا، لكن الجنود والضباط الأردنيين كانوا يخالفون الأوامر في كثير من الأحيان.
لكن دخول الجيش العربي عززنا والحقيقة أنه لولا دخوله لسقطت البلدة القديمة وباقي القدس، لكن توقفه عند خط التقسيم أغضب كل الجنود والضباط العرب في القدس لأنهم شعروا أنه كان بإمكانهم تحقيق نصر على اليهود الذين كانت معنوياتهم سيئة، وكان يمكن التغلب عليهم، وشعر هؤلاء الضباط والجنود أنهم سلبوا حق تحقيق نصر كبير، وكانوا غاضبين على كلوب باشا وحتى على النظام.
أحب أن أضيف شيئا مهما وهو أن دخوله من رام الله لباب الواد وعسكرته في اللطرون أعاد الحصار على يهود القدس حيث أغلق الطريق عليهم، وحدث قتال هناك استمر 27 يوما قبل أن تحدث هدنة، واستغل اليهود الهدنة لفتح طريق بديل مكنهم من الحصول على أسلحة متفوقة على الجيش العربي.
ماذا عن الجيش العراقي؟
نوري السعيد كان موقفه واضحا مع التقسيم، لكن الجيش العراقي جيش وطني ويقدس فلسطين شعبا وجيشا، لكن اللعبة التي قام بها نوري السعيد كانت أن قام بتعيين قادة من أناس مقربين منه، منهم نور الدين محمود الذي كان مقره فندق فيلادلفيا في عمان، وكان قائد الجيش، وطاهر الزبيدي الذي كان حاكما عسكريا في نابلس.
لكن اللعبة الأهم أنه خرج من العراق فرقتان فيهما على الأقل عشرون ألف جندي، توقف غالبيتهم على الطريق في مناطق مختلفة من الأردن قبل الوصول للضفة الغربية، القوة التي دخلت لفلسطين لم تكن سوى ألف وخمسمائة جندي فقط لا غير، حتى يكونوا عاجزين عن أي مواجهة.
وتم نشرهم بخيط رفيع على خطوط التقسيم، والذي كان يشرف على خطة العمليات الملك عبد الله، أي عمليا القائد العسكري البريطاني كلوب باشا، الذي أمر الجيش العراقي الذي دخل بمهاجمة مستعمرات دجانيا 1 ودجانيا 2 وهي مستعمرات محصنة من فترة الحرب العالمية الثانية، وصدم الجيش بشكل كبير وتراجع بعد أن تكبد خسائر، وتمت إعادتهم لنابلس ومن هناك تم نشرهم بشكل لا يوجد فيه أي قوة.
عندما حدثت هدنة تم تعزيز قوة الجيش العراقي بآلاف الجنود لحماية التقسيم، أضف إلى ذلك أن هناك ضباطا وجنودا عراقيين كانوا يخالفون أوامر القادة ويقومون بعمليات قتالية مع المناضلين، وهناك من الضباط من أخبرني أن قائد الجيش العراقي في نابلس طاهر الزبيدي جمع القادة واستهزأ بمن يريدون أن يحاربوا من ضباط وجنود الجيش العراقي، وفي نهاية الاجتماع طلب منهم أن ينظموا محاضرات في وحداتهم العسكرية يقولون فيها للجيش إن الفلسطينيين خونة وجواسيس باعوا أراضيهم لليهود، وليس هناك داع للقتال من أجلهم.
ومع ذلك هذا الشيء كان مرفوضا من غالبية الضباط والجنود واستمروا بمساعدتنا.
"
الجيش المصري كان حتى قبيل الحرب العالمية الثانية خاصا بالمراسم، وهذا لأن الإنجليز كانوا يحكمون مصر، وفي الحرب العالمية الثانية تمت زيادة قوته من أجل حماية الإنجليز
"
ماذا حدث للجيش المصري في تلك الفترة؟
الحكومة المصرية كانت مترددة بين أن يدخل الجيش لفلسطين أو لا يدخل، وأنا سمعت من القائد العسكري محمد فوزي أن التردد ظل موجودا حتى ما قبل 15 مايو/أيار بيوم واحد، حيث تقرر دخول الجيش.
لكن قبل صدور القرار كان هناك تحضير لقوات من السودان وليبيا وتونس، وعلى رأسهم أحمد عبد العزيز وهو من قيادات الإخوان المسلمين في مصر كقوات غير نظامية، لكن قادتها كانوا ضباطا مصريين.
ودخلت هذه القوات لفلسطين في 15 مايو/أيار على يمين الجيش المصري، حيث دخل الجيش عبر الساحل من غزة للمجدل لتل أبيب، وهم دخلوا من الجبل لبئر السبع للخليل وبيت لحم والقدس.
وكانت خطة الجيش المصري في التقدم صحيحة نظريا لكن تطبيقها كان خاطئا، وهي الدخول بسرعة والالتقاء مع الجيش الأردني والعراقي في اللطرون.
وتقدم الجيش المصري السريع جعله يترك خلفه مستوطنات، ويترك قوات لتقوم بتصفيتها، وهذا لم ينجح لأن القوات التي تركت لتصفية المستوطنات كانت قليلة جدا، كما أن المستوطنات لعبت دورا كبيرا في ضرب خطوط الجيش المصري وإمداداته ومواصلاته، وأصبح الجيش المصري في خطر وانسحب للعريش.
وماذا حصل للقوات الشعبية الموازية له؟
قاتلت هذه القوات في غزة وبئر السبع قتالا جيدا وقاموا مقاومة ناجحة، لكن ما حدث أن الهدنة كانت مستقرة على خطوط الجيش العراقي والأردني، واليهود استجمعوا قوتهم وعززوها وقاموا في شهر أكتوبر/تشرين الأول 1948 بالهجوم على الجيش المصري منفردا ودفعه للتراجع إلى الخلف بشكل سريع من باب الواد حتى العريش داخل مصر، مما اضطر الجيش المصري للجوء لمعاهدة مع الجيش الإنجليزي الذي قام هو بوقف تقدم اليهود.
ومع الاحترام فإن الجيش المصري كان حتى قبيل الحرب العالمية الثانية خاصا بالمراسم، وهذا لأن الإنجليز كانوا يحكمون مصر، وفي الحرب العالمية الثانية تمت زيادة قوته من أجل حماية الإنجليز، وأنا احتككت بالجيش وكان متواضعا عسكريا في تلك الفترة.
"
اليهود ارتكبوا عشرات المجازر المروعة وهي أكبر من دير ياسين، منها بمدينة اللد التي قاومت وكان الدفاع عنها بطوليا
"
هناك من تحدث عن مؤامرات تعرض لها الجيش المصري، هل كان هذا سببا في التقهقر الذي تحدثت عنه؟
أنا لا أملك معلومات مؤكدة كوني كنت بعيدا عن أجواء المعارك فقط كنت مرابطا في القدس، لكنني سمعت عن مؤامرات وحتى خيانات أدت لهذا التراجع الكبير.
لكن للتاريخ أذكر أنني مكثت ستة أشهر تقريبا في المنطقة الواقعة بين قرى بيت نتيف وصوريف قرب بيت لحم نقاتل إلى جانب الجيش المصري، وكانت تلك الفترة هي فترة حصار الفالوجة قرب غزة، وهو صمود أسطوري للجيش المصري والقوات الشعبية التي كانت معه.
وأشهد أن المقاومة التي حصلت في الفالوجة مقاومة من أشد ما يمكن ومن أنجح ما يمكن، وكان هناك تآمر عليهم في الفالوجة، ولم ينجح هذا التآمر وظلت القوات صامدة في الفالوجة إلى أن خرجت القوات المصرية بقرار دولي وعبر وساطة من الصليب الأحمر وبكل قواتهم، لأن اليهود اشترطوا خروجهم كأفراد، لذلك أشهد أن مقاومة المصريين في الفالوجة كانت أسطورية.
بعد هذا السرد التاريخي الطويل، هناك من يتهم اللاجئين الفلسطينيين بأنهم تركوا بلادهم وهربوا دون أي مبرر ولم يدافعوا عنها، ما هي شهادتك على خروجهم من ديارهم؟
من أهم أحداث 1948 خروج اللاجئين، وهو خروج خطير لأنهم تركوا بيوتهم وأموالهم وأرضهم، وكان هناك مقولات غير صحيحة عن خروجهم، قيل أن الدول العربية قالت لهم أخرجوا وهذا غير صحيح، أنا عشت هذه المرحلة ولا أدافع عن أحد.
ما الذي أخرجهم إذن؟
الذي أخرجهم أن الحركة الصهيونية كان برنامجها من أيام هرتزل يتلخص في هدفين، تهجير الفلسطينيين وأن يكون ذلك بواسطة الإرهاب، لو جئنا لدير ياسين التي ظل فيها بعد المعركة حوالي مائتي شخص، دفعوهم بعد ثلاثة أيام، لمنطقة حي النصارى وأنا من استلمهم، وكان وضعهم في غاية السوء، وسردوا قصصا مروعة.
"
من أهم أحداث 1948 خروج اللاجئين، وهو خروج خطير لأنهم تركوا بيوتهم وأموالهم وأرضهم، وكان هناك مقولات غير صحيحة عن خروجهم
"
مثلا؟
هناك طفل كان عمره 12 سنة عندما حدثت المعركة ومن ثم المجزرة، اقتحم اليهود بيت الأسرة فقتلوا أباه وأخاه، وكانوا يريدون قتل الطفل، لقد كان هناك إبادة لتخويف بقية القرى وإجبارها على الهروب.
اليهود ارتكبوا عشرات المجازر المروعة أكبر وهي أكبر من دير ياسين، منها بمدينة اللد التي قاومت وكان الدفاع عنها بطوليا، إلى أن هاجمها إسحاق رابين بقوات كبيرة جدا وانتهت المقاومة ودخلت القوات الإسرائيلية للد التي كان فيها في ذلك الوقت ستون ألفا.
وارتكب اليهود مذبحة في مسجدها الكبير قتل فيها أكثر من مائة شخص سالت دماؤهم في الشارع ما أدى لخروج الناس من بيوتهم تحت أوامر العصابات اليهودية ومن مخرج تم تحديده مسبقا، وتم أخذ كل شيء منهم حتى الخبز، تخيل تم تهجير ستين ألفا دفعة واحدة.
الرملة هي مدينة وعندما سقطت اللد تم تطويقها من كل الجهات، وكان فيها مقاومة، أحد شباب المقاومة أخبرني أنه عندما سقطت اللد، قاموا بتسليم أسلحتهم ومع ذلك تم تهجيرهم عن بكرة أبيهم، وهذا ما حدث لبقية فلسطين من قرى ومدن، تهجير واحتلال وقتل، باختصار هذه تفاصيل المحرقة الفلسطينية على أيدي اليهود.