اتخاذ القرار هو أمر نقوم به كثيرا وهو أحد الوظائف الأساسية للمدير والمهندس والطبيب والمحاسب وغيرهم، ويشارك المهندس الصناعي كثيرا في صُنع القرار وربما اتخاذه كذلك. ولذلك فمن المهم أن نكون على دراية بالأدوات التي قد تساعدنا على اتخاذ القرار الأصوب. وتظهر صعوبة اتخاذ القرار عندما يتعلق الأمر بمتغيرات مستقبلية لا نستطيع تحديدها بدقة، ففي هذه الحالة لا نكون متأكدين مما سيكون عليه الحال، ويمثل هذا تحدٍ لمتخذ القرار. وإن مثل هذه الحالات قد تسمح لمن لا يحب دراسة الأمور أن يتخذ أي قرار طالما ليست هناك معلومات كافية، وهذا تصرف خاطئ، ففي ظل عدم التأكد يمكننا أن ندرس القرارات ونفاضل بينها وصولا للقرار الأصوب.
وهناك حالتان من عدم التأكد، في الحالة الأولى يكون لدينا جهل كامل باحتمالية حدوث أمر ما، مثال ذلك أننا نريد أن ننشأ مصنعا وليس لدينا أي علم باحتماليات رواج السوق أو كساده، أو أنني أريد أن أدرس علم ما وليس لدي أي معرفة باحتمالية ارتفاع الطلب على هذا التخصص أو انخفاضه أو عدم تغيره. وأما في الحالة الثانية فإننا لا نعرف على وجه القطع ما ستكون عليه الأحوال، ولكن يمكننا توقع حدوث وضع ما أكثر من الآخر، فيمكننا أن نتوقع رواج السوق بنسبة 80% وتوقع كساده بنسبة 20%. ولذلك فنسمي الحالة الأولى حالة عدم التأكد وعدم وجود احتمالات، ونسمي الثانية حالة عدم التأكد مع وجود احتمالات. سنتعرض للحالة الأولى في هذه المقالة وللحالة الثانية في مقالة تالية بمشيئة الله.
اتخاذ القرار في ظل عدم التأكد وعدم وجود احتمالات
افترض أنك تفكر في زيادة إنتاجك للضعف وأنت لا تستطيع أن تعرف بالمرة إن كان السوق سيزدهر أم يضمحل أم يحافظ على حالته الحالية، وذلك نتيجة لعدم استقرار الظروف السياسية أو الاقتصادية. وأنت متردد بين التوسع للضعف أو المحافظة على الإنتاج الحالي أو التوسع بنسبة 25%. وبعد دراسة الأمر استطعت أن تحسب العائد من كل خيار في كل حالة من حالات السوق، هذا العائد قد يكون صافي القيمة الحالية والذي ناقشناه في مقالة سابقة، ويمكن أن نعتبره – في هذا المثال للتبسيط – صافي الربح في خمس سنوات. وقد لخَّصت هذا العائد كالتالي:
ماذا تفعل وأنت لا تعرف كيف سيكون حال السوق؟ هل تتوسع بنسبة 100% أم 25% أم تحافظ على وضعك الحالي؟ خيارات صعبة ومؤثرة.
هناك أربع طرق لاتخاذ مثل هذا القرار:
أولا: اختيار أقصى عائد Maximax
هذه الطريقة تدعونا لتبني الخيار الذي يحقق أعلى ربحية ممكنة (أعلى عائد)، ففي مثالنا هذا تكون أعلى ربحية لكل خيار كالآتي:
نختار الخيار الذي يحقق أعلى عائد وهو التوسع بنسبة 100%. هذه الطريقة تعتمد على التفاؤل والبحث عن أعلى عائد على افتراض تحقق الظروف المناسبة لتحقيق هذا العائد، ولكن هذه الطريقة لا تنظر لاحتمالية ألا تسير الأمور كما نتمنى.
ثانيا: اختيار أقصى قيمة دنيا Maximin
في هذه الطريقة نبحث عن أقل عائد ممكن لكل خيار ثم نختار الخيار الذي يحقق أعلى “أقل عائد”. العائد الأدنى لكل خيار في مثالنا هو:
علينا اختيار الخيار الذي يحقق أعلى “أقل عائد” وهو الحفاظ على الوضع الحالي. هذه الطريقة يعتبرها البعض معتمدة على التشاؤم وتوقع الأسوأ أو لنقل طريقة متحفظة تريد تقليل الخسائر بقدر الإمكان.
ثالثا: اختيار أقل أسف Minimax regret
هذه الطريقة تساعدنا على اختيار الخيار الذي يحقق أقل أسف على الفرص الضائعة، أي أننا لا نريد تضييع الفرص الاستثمارية، ولذلك فإننا نغير البيانات في الجدول لتعبر عن أقصى ضياع للفرص وذلك بطرح كل قيمة في كل عمود من القيمة الأعلى في ذلك العمود. هذا يعني أنه في حالة ازدهار السوق فإن أعلى عائد هو للتوسع بنسبة 100% ولذلك فإننا بتوسعنا هذا سنندم على ضياع صفر جنيها، وإذا توسعنا بنسبة 25% فسنأسف على ضياع فرصة ربح (150 -60) =90 جنيها، وإذا حافظنا على سعتنا الحالية فسنأسف على (150 – 10) =140 جنيها. وهكذا نكرر الأمر في كل عمود. بعد ذلك نضع أعلى أسف (ضياع للفرص) لكل خيار في العمود الأخير ثم نختار أقلها كما يلي:
الاختيار الذي يحقق أقل ضياع للفرص هو الخيار الأول حيث أن أعلى ضياع للفرص فيه هو 55 جنيها وهو أقل من الخيارين الثاني والثالث.
هذه الطريقة تهتم بعدم ضياع الفرص من بين أيدينا، وهي لا تميل لافتراض تحقق أي حالة من حالات السوق.
رابعا: اختيار لابلاس Laplace
هذه الطريقة تقول أنه طالما لا يمكننا معرفة احتمالية ازدهار السوق من كساده فإن علينا أن نفترض أن احتمالية الازدهار والكساد وعدم التغير متساوية. وبالتالي فإننا نجمع عائد كل خيار في كل حالة من حالات السوق الثلاث جمعا جبريا ثم نختار الخيار الذي يحقق أعلى عائد كالتالي:
كما تلاحظ فإن الخيار الأول يحقق أعلى عائد كلي. لاحظ أن العائد الكلي هو ليس عائدا متوقعا وإنما هو مجرد محصلة الجمع الجبري للعائد فنحن لا نتوقع أن يكون العائد 155 وإنما هذه عملية حسابية لاختيار الخيار الأفضل، ويمكن أن تقول إن العائد المتوقع هو العائد الكلي مقسوما على 3.
هذه الطريقة لا تعتمد على الإفراط في التفاؤل أو التشاؤم وإنما توازن بينهما وتبحث عن أعلى عائد.
ما هي الطريقة الأفضل؟
هذا سؤال يتبادر للذهن عند استعراض هذه الطرق، وأظن أنه لا توجد إجابة قاطعة، فقد تكون الطريقة المناسبة في ظرف ما غير مناسبة في غيره. على سبيل المثال فإن القرار سيختلف حسب حال متخذ القرار فالموظف المتقاعد الذي يريد استثمار مكافأة نهاية الخدمة أو مدخراته طوال سنين الخدمة يريد أن يضمن أقل خسائر ولذلك فربما تناسبه الطريقة الثانية، والمدير في شركة كبرى لا يمثل لها المشروع ثروة طائلة قد تناسبه الطريقة الأولى أو الثالثة فهو يبحث عن الربح والنمو ولا يهاب الخسارة، وتأتي الطريقة الرابعة فتمثل حلا وسطا يناسب قطاع عريض من متخذي القرار لأنها تعتبر أكثر واقعية في ظل غياب معلومات كافية عن حالة السوق.
مثال: افترض أننا نريد تسليم كمية من منتجنا في بلدة بعيدة وأمامنا ثلاثة خيارات لطريق لنقل البضاعة، ونريد أن نتخذ القرار الآن ونحن لا نعلم إن كنا سنتمكن من إنتاج الكمية المطلوبة قبل 15 أبريل أم قبل 20 أبريل علما بأن موعد التسليم هو 23 أبريل وغرامة التأخير عن كل يوم هي 50 جنيها.
ويمكننا الآن أن نحسب التكاليف المصاحبة لكل خيار ففي حالة الطريق أ فإن كان الإنتاج يوم 15 أبريل فسنتكلف تكلفة النقل 30 جنيها علاوة على تكلفة التأخير لمدة يوم واحد أي 50 جنيها فتكون التكلفة 80 جنيها. الجدول التالي يبين التكاليف المصاحبة لكل حالة:
دعنا نفكر ما هي الطريقة المناسبة لاتخاذ القرار. هل نبحث عن أقل تكلفة محتملة؟ هل نستخدم الطريقة الأولى؟ إننا بذلك نكون متفائلين بغير أساس. أظن أن الطريقة الثانية أو الرابعة مناسبة لهذه المشكلة. باستخدام الطريقة الثانية نجد أن الطريق ب هي الأفضل لأنه في أسوأ الأحوال سيحقق أقل التكاليف.
أما الطريقة الرابعة فتظهر أيضا أن الطريق ب هو الأفضل لأنه بفرض تساوي احتمالات الإنتاج في 15 أبريل و20 أبريل فإن مجموع التكلفة لـ ب هو الأقل.
فاختيارنا لإحدى طرق الحل لابد أن يناسب حالنا، في بعض الحالات نحاول تحقيق أقل الخسائر وفي بعضها نحاول تحقيق أقصى فائدة وفي البعض الآخر نحاول اتخاذ قرار متوازن.
مثال: افترض أن طالبا يريد أن يدرس مادة إضافية لزيادة مجموع درجاته علما بأن هذه المادة لا يمكن أن تؤدي لانخفاض مجموع درجاته، أي طريقة سيختار هذا الطالب؟
إن كان الطالب يعرف مجموعه في المواد الأخرى ويعلم أنه بحاجة لأكبر عدد من الدرجات لمنافسة زملائه فهو لن يلتفت لأي طريقة سوى الطريقة الأولى، وبالتالي سيختار الرياضيات ويحاول أن يجتهد للوصول لحالة التوفيق. وأما إن كان يعلم أنه بحاجة لأربع درجات فقط لتحقيق مجموع محدد يمكنه من الالتحاق بتخصص ما، فإنه سيلجأ للطريقة الثانية أي تحقيق أقل خسائر أو بأسلوب آخر تحقيق أقل درجات إضافية، وبالتالي سيختار مادة اللغة الإنجليزية. وأما إن لم يكن لديه علم بمجموع درجاته في المواد الأخرى فربما لجأ للطريقة الرابعة، وبالتالي سيختار الرياضيات.
وفي النهاية فإن كل طريقة من هذه الطرق تنطوي على قدر من المغامرة، ولذلك فإن اللجوء إليها غير مناسب إلا في حالة عدم القدرة على توقع ما سيحدث مستقبلا أي عدم القدرة على توقع احتمالات التوفيق من عدمه أو احتمالات الرواج من الكساد. وأما عند القدرة على توقع هذه الاحتمالات بناء على دراسة الماضي أو دراسة الحاضر أو دراسة المنافس فإنه ينبغي استخدام هذه الاحتمالات للوصول لقرار أصوب، فليس من المعقول أن تكون على علم بأن السوق في أغلب الظن سيزدهر ثم تتخذ القرار كما لو كان الرواج والكساد محتملين بنفس النسبة.
وقد تستخدم أحد هذه الطرق ولكن تحليلك للطرق الأخرى يساعدك على الاستعداد لمواجهة الاحتمالات الأخرى، فقد تستخدم طريقة أعلى عائد ولكن تحليلك للطرق الأخرى يُخبرك انه في ظل احتمالات الكساد قد يحدث كذا وكذا، فعليك أن تستعد لذلك بوضع خطة بديلة أو احتياطات نقدية أو غير ذلك. فمن هذا المنطلق تجد هذه الطرق كلها وسيلة لاتخاذ القرار ولتوضيح أسوأ وأفضل الاحتمالات، وهو ما يساعدنا على التخطيط السليم والاستعداد لمواجهة ما لم نكن نتوقعه.