عندما كنت في لندن الشهر الماضي خرجت إلى صلاة الجمعة في أول أسبوع، وأنا كلي ثقة أني سأصل في الموعد وبسهولة باستخدام الحافلة؛ لأن في جيبي "جوجل"، فأخرجت سلاحي الصغير، الذي أصبح يحتل جزءاً من دماغي، وخصوصاً المتعلق بالملاحة، وبينما كنت أمشي وأهمّ بالاستعلام عن الطريق الأسهل باستخدام سبل المواصلات العامة لأجده انطفأ على غير عادته، هنا بدأ الخوف يتسلل إلى قلبي؛ حيث إن مشواري لا يسمح بأي تأخير، وشعرت حينها كيف سلبتنا التكنولوجيا من استقلالنا واعتمادنا على أدمغتنا ومهاراتنا وأصبحنا عرضة للخطر أكثر في الأزمات، هذا على المستوى الشخصي، فما بالك بالمؤسسات الضخمة! وقد حدث ذلك قبل أسبوع مع شركة دلتا للطيران؛ حيث تعطل النظام وتعطل معه آلاف المسافرين، لكن كل ذلك لن يمنع فيضان التقدم التكنولوجي من الاستمرار في اقتحام بيوتنا وأعمالنا.
بالنسبة لي كان الموضوع بسيطاً، فقد عاد هاتفي إلى العمل من جديد وأخبرني (كما في الصورة في الأسفل) عن كافة تفاصيل رحلتي القصيرة من خلال خريطة المسار الذي انقسم إلى جزء فيه مشي، والآخر في الحافلة، وأخبرني بالتحديد ما هو رقم الحافلة، ورمز موقف الحافلة المطلوب الوجود فيه، ومتى ستأتي الحافلة القادمة (والتي بعدها)، وعدد المواقف التي ستمر عليها، وأسماؤها، فلست بحاجة إلى قراءة الخريطة والمعلومات وجدول المواقيت، كلها تم تلخيصها بكبسة زر!
هذا طبعاً مثال بسيط كيف أصبحت التكنولوجيا والتطبيقات الذكية تسهل علينا الكثير وتميكن أشياء كثيرة في حياتنا اليومية، وليس فقط في الصناعة والتجارة، لكن المشكلة أن هذه التطبيقات الذكية والهاتف الذكي من خلفها تجعلنا أسرى أكثر لها، بل قد تقلل من فرص إعمال أدمغتنا وتطويرها، من خلال التعامل مع مختلف مهامنا اليومية والمشاكل التي تواجهنا، فلقد تقلصت فرص محاولاتنا وتجاربنا، فأصبحنا نفحص خريطة جوجل لتجنب الزحام؛ لأننا غير مستعدين لخوض أية مخاطر ولو كانت بسيطة، وهذا غير صحيح على الأقل من منظور تطوير وتعزيز التفكير الإبداعي.
صحيح أن كثيراً من التطبيقات تسهل الحياة وإدارة أمورنا اليومية لتفرغنا لأمور أخرى، وهذا طيب (إن كانت الأمور الأخرى طيبة!)، لكن التسارع في التطور التكنولوجي باستمرار، وخصوصاً فيما يتعلق بالذكاء الصناعي يسير باتجاه تغيير جذري لأمور حياتنا اليومية والمستقبل البعيد سيكون رهيبا!
تأمل في ما حصل في فيلم "وال إي" WALL-E مثلاً، أو أي من السيناريوهات الخيالية (حالياً على الأقل) التي تنبأ بها أهم العلماء، فلقد وصل الأمر إلى أن حذر العالم البريطاني الشهير ستيف هوكينغ من أن آلات الذكاء الصناعي قد تقتلنا في يوم من الأيام، أو تهدد حياتنا، ليس لأنها تكرهنا كما ذكر، لكن لأننا قد نكون عقبة في وجهها لتحقيق أهدافها، أما نيل تايسون، عالم الفيزياء الفلكية المعروف، فذكر في مقابلة أن الآلات والروبوتات ستتحكم وتسيطر على الإنسان بشكل كبير، بل ذكر مثالاً طريفاً أو ربما مخيفاً بالغ فيه كثيراً في إحدى محاضراته، عندما قال: إن الروبوتات قد تمر على كوكب الأرض لمشاهدة البشر، وتتسلى بهم وكأن الأرض حديقة حيوانات كبيرة!
أما على المدى المنظور الذي بدأ مع إنترنت الأشياء Internet of Things، التي تعتبر أهم المحركات القادمة لتقوم بتغيير جوهري في حياتنا paradigm shift، كما يقول الاقتصادي والمنظر الاجتماعي جيريمي رفكن، فالتواصل سيمتد بين كل شيء وليس فقط بيننا والآلات والأشياء، وقد تنبأ رفكن بتبديل النظام الرأسمالي بنظام تشاركي، أو كما سمَّاه collaborative commons، وضرب أمثلة عدة ضمن هذه المنظومة الجديدة التي بدأت تكتسح عالم الأعمال، مثل أن يتشارك المستخدم والمزود بالخدمة أو المنتج، فمثلاً شركة أوبر Uber تعتبر أكبر شركة سيارات أجرة في العالم رغم أنها لا تمتلك أي سيارة أجرة، وكذلك الحال بالنسبة لشركة إير بي إن بي Airbnb في تأجير الغرف والشقق، ولقد ذكر رفكن أدلة وممهدات عدة في كتابه المهم The zero marginal cost society لمن أراد الاطلاع على نظريته ونبوءته بالتفصيل.
ستيف جوبز كان يقول إنه كأي ريادي ناجح يتربص دائماً بالمستقبل والقادم، وكذلك قادة الدول الناجحون، ويبدو أن الموجة الصناعية التالية على الأبواب وستحتاج كمثيلاتها من الموجات السابقة، التكامل بين القطاع العام ودوره في تحضير البنية التحتية اللازمة للقطاع الخاص؛ لينتعش ويبدع في بيئة تشجع الأعمال والإبداعات بكافة أشكالها التكنولوجية وغير التكنولوجية، لكن غير محصور بطريقة التكامل العمودية لشركات كبرى، كما جرى سابقاً، وهنا فرصة أن نفهم هذه الموجة وندخل معها ونؤثر فيها؛ لعلنا نلحق الركب مبكراً وربما نؤثر في قيادة دفته.