الرقابة هي الوظيفة الإستراتيجية الحساسة داخل الكيان الإداري لأنها تتعلق بالتخطيط والتنظيم وتحديد المسؤولية وتنقل للقائد الإداري جميع المعلومات التي تتعلق بتنفيذ الخطط وبلوغ الأهداف المنشودة, الرقابة هي العملية التي تمد الإدارة المسؤولة بالبيانات عن درجة التقدم في الأداء ، كما تعمل على تعديل الخطط وإعادة تحديد الأهداف الفرعية حتى تعمل على تحقيق الهدف الرئيسي , كما يمكن أن نعرفها بأنها الوظيفة الإدارية التي تهتم بقياس وتصحيح أساليب الأداء فالرقابة المثالية هي التي تقوم بالتنبؤ بالمشكلات وتحديدها قبل حدوثها وهناك عدة أنواع من الرقابة , الرقابة ثلاثة أنواع : إدارية ، وقضائية ، وسياسية. وكل واحدة منها تمارسها جهة متخصصة مختلفة ومستقلة عن غيرها.
أهمية الرقابة والتقييم :
هذه الوظيفة من أهم الوظائف للقائد الإداري إذ بواسطتها يستطيع التحقق من مدى تنفيذ الأهداف المرسومة للمنظمة . أي أنها وظيفة مراجعة وكذلك وظيفة تعمل على إظهار نقط الضعف وكشف الأخطاء الموجودة بالتنظيم حتى يمكن إصلاحها والعمل على منع تكرارها .
والرقابة وظيفة إدارية مطلوبة في كل المستويات الإدارية وليست مقصورة على الإدارة العليا فقط وان كانت تختلف من موقع لآخر حسب اختلاف السلطات المخولة للمديرين في المنظمة . وتبرز أهمية الرقابة في صلتها الوثيقة بباقي مكونات العملية الإدارية .
والرقابة لها صلة وثيقة بالتخطيط : فهي التي تسمح للمدير بالكشف عن المشاكل والعوائق التي تقف إزاء تنفيذ الخطة وتشعره في الوقت المناسب بضرورة تعديلها أو العدول عنها كلية أو الأخذ بإحدى الخطط البديلة على نحو ما أشرنا عن التعرض لموضوع التخطيط .
والرقابة لها صلة بالتنظيم فهي التي تكشف للمدير عن أي خلل يسود بناء الهيكل التنظيمي لوحدته الإدارية . وفي مجال التفويض لا يستطيع المدير أن يفوض واجباته إلا إذا توفرت لديه وسائل رقابية فعالة لمراجعة النتائج لأن المفوض يظل مسئولا عن إنجاز المفوض إليه للواجبات التي فوضها , والرقابة لها صلة أيضا بعملية إصدار الأوامر وبعملية التنسيق إذ يستطيع المدير عن طريقها التعرف على مدى تنفيذ قراراته ومدى فعاليتها ومدى قبولها من جانب أعضاء التنظيم وهي التي تمكن المدير في النهاية من معرفة أوجه القصور في التنسيق في منظمته الإدارية فيعمل على تلافيها أو تذليلها .
مما لاشك فيه أن الإدارة في قيامها بأداء وظيفتها تملك أن تتقص من بعض حقوق الأفراد وحرياتهم، وحقها هذا لا يمكن تركه دون ضابط يرسم الحدود التي لا تتجاوزها مما يعرض تصرفاتها للبطلان , ويفرض هذا المبدأ وجود وسائل وأجهزة تراقب عمل الإدارة، وتختلف هذه الأجهزة باختلاف الدولة والنظم القانونية المتبعة فيها إلا أن المستقر في اغلب الدول وجود أربعة طرق يضمن من خلالها الأفراد مشروعية أعمال الإدارة في مواجهتهم وهي , الرقابة السياسية, الرقابة الإدارية ,رقابة الهيئات المستقلة, الرقابة القضائية .
الرقابة السياسية
تتخذ الرقابة السياسية على أعمال الإدارة صوراً مختلفة، فقد تتم عن طريق الرأي العام وتمارسها المؤسسات الاجتماعية والأحزاب السياسية والنقابات المهنية . كما قد تمارس عن طريق المؤسسات البرلمانية.
المطلب الأول: الرقابة عن طريق الرأي العام
يراد بمصطلح الرأي العام مجموعة الآراء التي تسود مجتمع معين في وقت ما بخصوص موضوعات معينة تتعلق بمصالحهم العامة والخاصة .
ويشترك في تكوين الرأي العام مختلف الهيئات و التنظيمات الشعبية والنقابية والحزبية عن طريق طرح أفكارها واتجاهاتها والدعوة إليها بمختلف الوسائل التي تؤدى الصحافة والوسائل السمعية والبصرية دوراً كبيراً في نشرها وتعبئة الرأي العام وتوجيهه من خلالها .
ومن الواضح ان هذا النوع من الرقابة له الأثر البالغ في تنظيم أعمال الإدارة ومنعها من التعسف في استعمال السلطة في العراق لاسيما الصحافة التي تمارس حرية التعبير والرأي باعتبارها لسان الأمة والمعبرة عنها، والتي غالباً ما كشفت عن بعض التجاوزات من موظفي الإدارة العامة.
غير إن هذا الطريق من طرق الرقابة لا يتسع تأثيره إلا في الدول التي تكفل حرية التعبير عن طريق الرأي العام و التي يبلغ فيها الرأي العام من النضج ما يؤهله القيام بواجب الرقابة وعدم الخضوع لمصالح فئات معينة تسخر الإرادة الشعبية و الرأي العام لتحقيق أهدافها و مصالحها الخاصة فتفقد بذلك حقيقة تعبيرها عن المصلحة العامة .
ويشترك في تكوين الرأي العام مختلف الهيئات والتنظيمات الشعبية ومؤسسات المجتمع المدني والاحزاب عن طريق طرح افكارها والدعوة اليها في مختلف الوسائل التي تؤدي الصحافة والوسائل السمعية والبصرية دوراً كبيراً في نشرها وتعبئة الجماهير وتوجيههم من خلالها.
1- مؤسسات المجتمع المدني
برز مفهوم المجتمع المدني في اطار افكار ورؤى بعض المفكرين والفلاسفة خلال القرنين السابع عشر والثامن عشر والتي تعتمد افكارهم اساساً على ان الانسان يستمد حقوقه من الطبيعة لا من قانون يضعه البشر وهذه الحقوق لصيقة به تثبت بمجرد ولادته. وان المجتمع المتكون من اتفاق المواطنين قد ارتأى طواعية الخروج من الحالة الطبيعية ليكون حكومة نتيجة عقد اجتماعي اختلفوا في تحديد اطرافه.
والمفهوم المستقر للمجتمع المدني يقوم على اساس انه مجموعة المؤسسات والفعاليات والانشطة التي تحتل مركزاً وسطياً بين العائلة باعتبارها الوحدة الاساسية التي ينهض عليها البنيان الاجتماعي والنظام القيمي في المجتمع من ناحية والدولة ومؤسساتها واجهزتها ذات الصبغة الرسمية من جهة اخرى
وبهذا المعنى فان منظمات المجتمع المدني تساهم بدور مهم في ضمان احترام الدستور وحماية حقوق الافراد وحرياتهم وتمثل الاسلوب الامثل في احداث التغيير السلمي والتفاهم الوطني مع السلطة في سبيل تعزيز الديمقراطية وتنشئة الافراد على اصولها وآلياتها. فهي الكفيلة بالارتقاء بالفرد وبث الوعي فيه وتعبئة الجهود الفردية والجماعية للتأثير في السياسات العامة وتعميق مفهوم احترام الدستور وسيادة القانون.
ومن الجدير بالذكر ان العراق قد اهمل دور هذه المؤسسات في وقت سيطرت فيه السلطة التنفيذية على السلطتين التشريعية والقضائية اعتباراً من تأسيس الدولة العراقية وصدور القانون الاساسي العراقي عام 1925 رغم ما منحه هذا الدستور من ضمانات في تأسيسها.
ومن ذلك ما ورد في نص المادة (26) من القانون الاساسي التي منحت الملك حق تقييد الحريات بمراسيم اثناء عطلة البرلمان او فضه او حله وكان. لاسيما المرسوم رقم (19) الصادر في ايلول عام 1954 الذي الغت فيه الحكومة كافة الجمعيات والنوادي ودور التمثيل المجازة في العراق في ذلك الوقت والذي بلغ عددها (468) جمعية وناد في كافة انحاء العراق .
واستمر الوضع على ما هو عليه في ظل النظام الجمهوري رغم ما تحويه الدساتير الجمهورية من ضمانات تأسيس هذه المؤسسات. غير إنه وبعد سقوط النظام الدكتاتوري عام 2003 دخل العراق مرحلة جديدة انتشرت فيه مؤسسات المجتمع المدني غير ان انتشارها لم ينعكس بقوة على المجال السياسي ولعل ذلك عائداً الى عدم النضج والوعي اللازمين لادارتها.
فقد اورد دستور جمهورية العراق الحالي في المادة (39) منه( اولاً:- حرية تأسيس الجمعيات والاحزاب السياسية او الانضمام اليها مكفولة وينظم ذلك القانون. ثانياً:- لا يجوز اجبار احد على الانضمام الى أي حزب او جمعية او جهة سياسية او اجباره على الاستمرار في العضوية فيها )).
2- وسائل الاعلام.
تلعب وسائل الاعلام دوراً سياسياً مهماً يساهم في تعبئة الرأي العام الشعبي من خلال كتابات واقوال المفكرين والصحف والفضائيات المرأية والمسموعة والاجتماعات والندوات التي تساهم في اطلاع الجماهير على المشاكل الاكثر إلحاحاً والتي يتعرض لها المجتمع وتكون مراقب جماعي لصالح الشعب من خلال انتقاد سياسات الحكام وكشف فضائحهم وفسادهم وانتهاكهم لسيادة القانون.
3- الاحزاب السياسية.
من اساسيات العمل الديمقراطي ان تسعى الاحزاب السياسية الى تحقيق الاتصال الجماهيري. فالدور الاساسي الذي تقوم به الاحزاب السياسية هو السعي للحصول على تأييد الافراد لبرامجها السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي تعد بتنفيذها اذا ما وصلت الى السلطة عبر الانتخاب. وحتى تحقيق ذلك تبقى الاحزاب مراقبة لعمل الاداره لضمان احترامها للدستور وسيادة القانون.
ومن الجدير بالذكر ان هذه الفرصة لم تتح للاحزاب السياسية في العراق فقد ضمن القانون الاساسي العراقي لعام 1925 التعددية السياسية والتداول السلمي للسلطة ولم تكن الاحزاب السياسية باحسن حالاً في ظل النظام الجمهوري رغم ما حققته ثورة الرابع عشر من تموز عام 1958 من منجزات عن طريق منح الاحزاب السياسية حرية العمل وتشكيل حكومة ائتلافية ضمت كافة الاحزاب الوطنية القائمة.
اذ ان الواقع العملي لطبيعة النظام السياسي في العراق منذ تأسيس الدولة العراقية وحتى عام 2003 يخلو من ضمانة وجود احزاب سياسية قوية ومعارضة، قادرة على مراقبة السلطة وردها الى الصواب اذا ما انحرفت عنه احتراماً للدستور وحقوق وحريات الافراد.
المطلب الثاني : الرقابة عن طريق البرلمان .
يتمثل هذا الطريق من الرقابة برقابة البرلمان على أعمال السلطة التنفيذية وذلك عن طريق الشكاوى المقدمة من الأفراد و المتظمنة طلباتهم التي قد يجد البرلمان أنها علي قدر من الوجاهة مما يدعو إلى مواجهة الوزراء بحق السؤال أو الاستجواب أو سحب الثقة من الوزارة كلها.
ويتحدد شكل الرقابة البرلمانية بما هو مرسوم في الدستور، وهي تختلف من دولة إلى أخرى وتكون الرقابة البرلمانية أقوى في النظم النيابية منها في النظم الأخرى، حيث تكون الوزارة مسؤولة أمام البرلمان مسؤولية تضامنية ناهيك عن المسؤولية الفردية لكل وزير عن أعمال وزارته .
وقد كفل الدستور العراقي رقابة البرلمان على أعمال الحكومة احتراماً لمبدأ المشروعية عن طريق توجيه السؤال حول أمر يجهله أحد النواب ، فقد اجاز لخمسة وعشرين عضواً في الاقل من مجلس النواب طرح موضوع عام للمناقشة لاستيضاح سياسة واداء مجلس الوزراء، ولعضو مجلس النواب وبموافقة خمسة وعشرين عضواً، توجيه استجواب الى رئيس مجلس الوزراء او الوزراء، لمحاسبتهم في الشؤون التي تدخل في اختصاصهم.
وقد ورد في المادة 61/ ثامناً من الدستور ان لمجلس النواب سحب الثقة من احد الوزراء بالاغلبية المطلقة، ويعد مستقيلاً من تاريخ قرار سحب الثقة، كما يملك المجلس بناءً على طلب خمس اعضائه وبالاغلبية المطلقة لعدد اعضائه سحب الثقة من رئيس مجلس الوزراء بعد استجواب وجه له.
ولكن مع ما تتمتع به الرقابة البرلمانية على أعمال الإدارة من أهمية فإن دورها مقيد غالباً بالإرادة الحزبية السائدة في البرلمان التي تكون في أحيان متوافقة مع إرادة الحكومة لو صادف أنها من الحزب نفسه فتكون الحكومة الخصم والحكم وهنا يختفي دور الرقابة السياسية ولا تحقق الحماية الكافية للأفراد ضد تعسف الإدارة خاصة في الدول غير النيابية أو التي تأخذ بنظام الحزب الواحد مما يقتضي تعزيزها بنوع أخر من أنواع الرقابة.(#_ftn4" target="_blank">[4]) كما ان عدم نضج الوعي السياسي لدى اعضاء البرلمان وافتقارهم الى الخبرة وضعف المعارضة قد تؤدي الى ضعف هذه الضمانة ويختفي دورها الحقيقي في حماية حقوق الافراد وحرياتهم.
المبحث الثاني
الرقابة الإدارية
الرقابة الإدارية تتمثل في الرقابة الذاتية التي تقوم بها الإدارة على تصرفاتها للبحث في مشروعيتها وملاءمتها فهي رقابة مشروعية من حيث موافقتها للقانون بمعناه العام ورقابة ملائمة من حيث تناسبها مع الهدف الذي تسعى الإدارة إلى تحقيقه .
وتبدو أهمية هذا النوع من الرقابة في إتاحة الفرصة للإدارة التي تصدر قراراً خاطئاً أن تعيد النظر في قراراها فتصححه تعديلاً أو إلغاءً أو تبديلاً، وفي ذلك حفظ لكرامة الإدارة عندما تكتشف عدم مشروعية تصرفها أو عدم ملائمته بالإضافة إلى أن هذا النوع من الرقابة مجاني ولا يتطلب أي رسوم أو مصاريف .
وهذه الرقابة أما أن تتم بشكل تلقائي وأما عن طريق تظلم ذوي الشأن .
المطلب الأول: الرقابة التلقائية
يتحقق هذا النوع من الرقابة الإدارية عندما تقوم الإدارة تلقائياً ببحث ومراجعة تصرفاتها لفحص مشروعيتها ومدى موافقتها للقانون وملائمتها للهدف المرجو منها، فتعمد إلى تصحيح تصرفاتها إلغاءً أو تعديلاً وقد يمارس هذه الرقابة الموظف أو الجهة التي أصدرت القرار، وقد يمارسها الرئيس الإداري بما له من سلطة رئاسية عليه، أو الهيئة المركزية بما لها من وصايا إدارية على الهيئات اللامركزية .
وقد تتم هذه الرقابة بناءً على تقارير لجنة أو هيئة إدارية أخرى مهمتها مراقبة أعمال الإدارة فتعمل على إلغاء قراراتها غير المشروعة أو إبلاغ الرئيس الإداري بما يتكشف لها من مخالفات قانونية ليتخذ الإجراء المناسب بخصوصها .
المطلب الثاني: الرقابة بناءً على تظلم
تمارس هذه الرقابة عندما تكتشف الإدارة عدم مشروعية تصرفها أو عدم ملائمته نتيجة تظلم يقدم إليها من صاحب المصلحة، وتختلف هذه التظلمات بحسب الأهمية التي يمنحها إياها المشرع، فتكون إجبارية أحياناً عندما يلزم الأفراد باتباعها قبل سلوك طريق الطعن القضائي فيكون شرطاً لقبول دعوى الإلغاء، مثلما فعل المشرع العراقي، حيث أخذ بفكرة التظلم الوجوبي و يجعله ه شرطاً عاماً بالنسبة لدعوى الإلغاء.
أما من حيث الجهة التي يقدم إليها التظلم فقد يكون التظلم ولائياَ أو رئاسياً أو إلى لجنة إدارية متخصصة .
أولاً- التظلم الولائي: وهو التظلم الذي يقدم إلى الجهة التي أصدرت القرار ويطلب إليها إلغاء القرار أو تعديله أو سحبه لعدم مشروعيته أو عدم ملائمته وتقوم الإدارة بعد ذلك بفحص التظلم للتأكد من مدى مشروعيته واتخاذ الإجراءات اللازمة لتفادي ما شابه من عيوب.
ثانياً- التظلم الرئاسي: وهذا التظلم يقدم من صاحب المصلحة إلى رئيس من صدر عنه القرار محل التظلم وقد يلجأ صاحب الشأن إلى هذا النوع من التظلم بعد استنفاذ طريق التظلم الولائي إذا ما أصرت الجهة التي أصدرت القرار على رأيها ورفضت تظلمه.
ثالثاً- التظلم الموجه إلى لجنة متخصصة:
يشترط المشرع في بعض الأحيان أن يقدم التظلم إلى لجنة إدارية خاصة يتم تشكيلها وفق شروط معينة يناط بها النظر في مدى مشروعية وملائمة القرارات الصادرة عن الإدارة والتي يتم التظلم منها .
وتفصل هذه اللجان في التظلمات المقدمة إلها من دون الرجوع إلى الرئيس الإداري وغالباً ما ينتهي تطور هذه اللجان إلى انتقالها نحو الرقابة القضائية كما هو الشأن في مجلس الدولة الفرنسي .
وأياً كانت صورة الرقابة الإدارية فهي ليست كافية لضمان مشروعية تصرفات الإدارة في مواجهة الأفراد إذ أنها تفتقر إلى الاستقلال والحياد فهي تجمع صفتي الخصم والحكم ولا يأمن جانبها من هذه الجهة برغم ما تتميز به هذه الرقابة من يسر إجراءاتها وقلة تكاليفها بالمقارنة مع الرقابة القضائية .
المبحث الثالث
رقابة الهيئات المستقلة
من الوسائل الجديدة التي اعتمدتها بعض الدول للرقابة على أعمال الإدارة، استحداث هيئات مستقلة عن السلطتين التشريعية والتنفيذية لتمارس وظيفة الرقابة على تصـرفات الإدارة والبحث في مدى موافقتها للقانون . ونبحث فيما يأتي نماذج من هذه الهيئات التي اعتمدتها بعض الدول
المطلب الأول: نظام الامبودسمان Ombouds man أو المفوض البرلماني
والامبودسمان كلمة سويدية يراد بها المفوض أو الممثل . وهو شخص مكلف من البرلمان بمراقبة الإدارة والحكومة وحماية حقوق الأفراد وحرياتهم
وقد استحدثت السويد هذا النظام في دستورها لعام 1809 ليكون وسيلة لتحقيق التوازن بين سلطة البرلمان والسلطة التنفيذية وللحد من تعسف الأخيرة في استخدامها لامتيازاتها في مواجهة الأفراد .
وقد تطور هذا النظام حتى بات يطلق عليه اسم “حامي المواطن” فهو الشخـص الذي يلجأ إليه المواطن طالباً حمايته وتدخله إذ ما صادفته مشاكل أو صعوبات مع الحكومة أو الجهات الإدارية
وللمفوض البرلماني الحق في التدخل من تلقاء نفسه أو بناءً على شكوى يتلقاها من الأفراد أو بأي وسيلة أخرى يعلم من خلالها بوقوع مخالفة فيعمل على توجيه الإدارة إلي وجوب اتباع أسلوب معين في عملها لتتدارك أخطائها، وله استجواب أي موظف في هذا الشأن وله إقامة الدعوى على الموظفين المقصرين في أداء واجباتهم ومطالبتهم بالتعويـض لمن لحقه ضرر من جراء التصرف غير المشروع
هذا ويقدم الامبودسمان تقريراً سنوياً إلي البرلمان يتضمن ما قام به من أعمال خلال تلك السنة.
وبالنظر للنجاح الكبير لهذا النظام فقد أخذت العديد من الدول بأنظمة مشابهة له كما حصل في فنلندا التي أخذت به عام 1919 ثم الدانمارك بمقتضى دستورها لعام 1953 وتم انتخاب أول امبودسمان فيها عام 1955 كذلك أخذت به نيوزلندا والنرويج عام 1962 والمملكة المتحدة وكندا عام 1967.
المطلب الثاني : الوسيط الفرنسي Le mediateur
أخذت فرنسا بنظام مشابه لنظام الامبودسمان واسمته " الوسيط" لأنه يتوسط البرلمان والحكومة أو لأنه وسطاً بين الرقابة البرلمانية والقضائية
وبموجب القانون رقم "6" في 3/1/1973 يعين الوسيط لمدة ستة سنوات غير قابلة للتجديد من رئيس الجمهورية بمرسوم جمهوري ولا يمكن عزله خلال هذه المدة أو إنهاء ممارسة أعمال وظيفته. إلا عندما يتعذر عليه القيام بواجباته الوظيفية ويترك أمر تقرير ذلك إلي لجنة مكونة من نائب رئيس مجلس الدولة ورئيس محكمة النقض ورئيس ديوان الرقابة المالية، ويتخذ القرار بالإجماع.
ويتمتع الوسيط باستقلال تام فلا يتلقى أية تعليمات من أية سلطة ولا يمكن إلقاء القبض عليه أو ملاحقته أو توقيفه أو حجزه بسبب أعمال وظيفته أو الآراء التي يدلي بها ويلتزم الوسيط بان يقدم تقريراً سنوياً مفصلاً عن نشاطه في السنة السابقة إلي رئيس الجمهورية والبرلمان
ويملك الوسيط حق توجيه الإدارة إلي ما هو كفيل بتحقيق أهدافها، وتسهيل حل الموضوعات محل للنزاع وتوجيه الإدارة إلي اتباع أسلوب معين في العمل ويحدد الوسـيط مدة معينة تجيب الإدارة على هذا التوجيه فإذا امتنعت عن الإجابة أو رفضت الرأي المقترح برفع الوسيط تقريراً بذلك إلي رئيس الجمهورية
هذا وقد أوجب القانون الفرنسي على المواطنين الإجابة على أسئلة واستفسارات الوسيط وله في ذلك أن يطلب من الوزراء تسليم المستندات والملفات التي تخـص الموضوعات التي بحثها ولا يجوز له الامتناع عن ذلك وان كانت الملفات سريه إلا إذا تعلق الأمر بالدفاع الوطني أو المصالح السياسية العليا
ويخرج عن اختصاص الوسيط وفق نص المادة "8" من قانون سنة 1973 الرقابة على أعمال الإدارة فيما يتعلق بالمنازعات ذات الطابع الوظيفي بسبب إناطة الفصل بها إلي مجلس الدولة، وحسبه كفيلاً بتوفير الحماية اللازمة للموظفين .
وللأهمية التي يتمتع بها هذا النظام نجد انه كان قد تلقى في عام 1974 حـوالي 1659 شكوى بينما وصل عدد الشكاوى التي تلقاها عام 1991 إلي ما يقارب من 3000 شكوى بحسب آخر الإحصاءات
المطلب الثالث: هيئة الادعاء العام السوفيتي
أنشأ الاتحاد السوفيتي السابق نظام هيئة الادعاء العام سنة 1922 وقد افرد له دستور عام 1936 خمس مواد لتحديد اختصاصاته ومن اختصاصاته الإشراف على تنفيذ الأنظمة والقوانين ومراقبة تقيد الإدارة بها وشرعية إجراءاتها في حماية حقوق الأفراد وحرياتهم .
ويمكن أن يباشر وظيفته تلك بمراقبة الإدارة تلقائياً أو بناء على تظلم يقدم إليه، ويعمل على تصحيح الأعمال والقرارات غير الشرعية الصادرة عن الإدارة . ويقتصر عمل المدعي العام على التأكد من مطابقة العمل الإداري للقانون دون البحث في ملائمة الإجراء الإداري أو كفايته، على عكس الأسلوب الذي اتبعه الامبودسمان السويدي والوسيط الفرنسي حيث يبحثان في ملائمة التصرف الإداري بالإضافة إلي مشروعيته
ويعد هذا النظام مساعداً للقضاء في الرقابة على أعمال الإدارة وحامياً لا يحرمها في مواجهتها، مما حمل المشرع الروسي على الإبقاء عليه بعد تفكك الاتحاد السوفيتي على الرغم ما يكتنف عمله في بعض الأحيان من عدم التزام الإدارة بآرائه وعدم قدرته على تغيير مسلكها إذا ما أصرت على رأيها .
المطلب الرابع : تقدير رقابة الهيئات المستقلة
تتمتع هذه النظم بخصائص تميزها عن سائر وسائل الرقابة، فهي على عكس الرقابة القضائية لا تتطلب أي رسوم أو مصاريف، كما تتمتع بصفة السرعة التي تفتقر إليها الرقابة القضائية .
بالإضافة إلي عدم أشترطها أية شكلية في تقديم الشكاوى كذلك لا يشترط في الشكاوى توفر المصلحة لمقدمها على نقيض النزاع القضائي . ولو أن بعض النظم ذهب إلي اشتراط ذلك بعد ازدياد عدد الشكاوى المقدمة إليها .
وغالباً ما تراقب هذه الهيئات موضوع ملائمة قرارات الإدارة في مواجهة الأفراد وتستمد سلطتها تلك من مبادئ العدالة والقيم العليا في المجتمع وروح القانون . فضلاً عن إسهامها في اقتراح وتعديل التشريعات وفق ما يلائم التطبيق السليم لها بما يحقق الحفاظ على حقوق وحريات المواطنين.
ومما يؤخذ على هذه الهيئات أنها ليست ملزمة باتخاذ إجراء معين في الشكوى المقدمة إليها من جهة ولا تتمتع بسلطة إصدار قرارات ملزمة للإدارة من جهة أخرى فهو يوجهها إلي اتباع أسلوب معين في تعاملها مع الأفراد ومن خلال ذلك يطلب تعديل أو إلغاء أو تبديل قراراتها، فسلطته أدبية في هذا الشأن
ويبدو ان المشرع الدستوري العراقي قد اخذ لاول مرة بهذا الاسلوب من الرقابة فقد ورد في نص المادة (102) منه ((تعد المفوضية العليا لحقوق الانسان والمفوضية العليا المستقلة للانتخابات، وهيئة النزاهة هيئات مستقلة، تخضع لرقابة مجلس النواب، وتنظم اعمالها بقانون )).
و لا يسعنا إلا ان نرجو ان تعوض هذه الهيئات في اختصاصها الاستثناءات الخطيرة التي شابت ولاية القضاء على اعمال الادارة والعيوب الكثيرة التي اكتنفت الرقابة البرلمانية اذ ان الانسان العراقي بحاجة الى المزيد من الحماية وان في استحداث المفوضية العليا لحقوق الانسان الى جانب هيئة النزاهة الضمانة الاكيدة لتوفير ذلك.
المبحث الرابع
الرقابـــة القضائيـــة
تعد رقابة القضاء على أعمال الإدارة أهم وأجدى صور الرقابة و اكثرها ضماناً لحقوق الأفراد وحرياتهم لما تتميز به الرقابة القضائية من استقلال وحياد . وما تتمتع به أحكام القضاء من قوة وحجية يلتزم الجميع بتنفيذها واحترامها بما في ذلك الإدارة . وإلا تعرض المخالف للمسألة .
ومن المستقر وجود نوعين من نظم الرقابة القضائية على أعمال الإدارة لا يميز النوع الأول بين الأفراد والإدارة في مراقبة تصرفاتهم ويخضعهم لنظام قضائي واحد هو القضاء العادي، ويسمى بنظام القضاء الموحد . أما الثاني فيسمى نظام القضاء المزدوج ويتم فيه التمييز بين منازعات الأفراد ويختص بها القضاء العادي والمنازعات الإدارية وتخضـع لقضاء متخصص هو القضاء الإداري .
المطلب الأول : نظام القضاء الموحد
يسود هذا النظام في إنكلترا والولايات المتحدة الأمريكية وبعض الدول الأخرى، ومقتضاه أن تختص جهة قضائية واحدة بالنظر في جميع المنازعات التي تنشأ بين الأفراد أنفسهم أو بينهم وبين الإدارة أو بين الهيئات الإدارية نفسها
وهذا النظام يتميز بأنه أكثر اتفاقاً مع مبدأ المشروعية إذ يخضع الأفراد والإدارة إلي قضاء واحد وقانون واحد مما لا يسمح بمنح الإدارة أي امتيازات في مواجهة الأفراد. بالإضافة إلي اليسر في إجراءات التقاضي إذا ما قورنت بأسلوب توزيع الاختصاصات القضائية بين القضاء العادي والإداري في نظام القضاء المزدوج .
ومع ذلك فقد وجه النقد إلي هذا النظام من حيث انه يقضي على الاستقلال الواجب توفره للإدارة بتوجيهه الأوامر إليها مما يعيق أدائها لأعمالها، مما يدفع الإدارة إلي استصدار التشريعات التي تمنع الطعن في قراراتها، ولا يخفى ما لهذا من إضرار بحقوق الأفراد وحرياتهم .
ومن جانب آخر فأن نظام القضاء الموحد يؤدي إلي تقرير مبدأ المسؤولية الشخصية للموظفين مما يدفعهم إلي الخشية من أداء عملهم بالوجه المطلوب خوفاً من المساءلة، وإذا مـا قرر القضاء تضمين الموظفين بناءً على هذا المبدأ فانه يحرم المضرورين من اقتضاء التعويض المناسب لضعف إمكانية الموظف المالية غالباً
المطلب الثاني : نظام القضاء المزدوج
يقوم هذا النظام على أساس وجود جهتين قضائيتين مستقلتين، جهة القضاء العادي وتختص بالفصل في المنازعات التي تنشأ بين الأفراد أو بينهم وبين الإدارة عندما تتصرف كشخص من أشخاص القانون الخاص، ويطبق القضاء على هذا النزاع أحكام القانون الخاص.
وجهة القضاء الإداري تختص بالفصل في المنازعات التي تنشأ بين الأفراد والإدارة عندما تظهر الأخيرة بصفتها صاحبة السلطة وتتمتع بامتيازات لا يتمتع بها الأفراد ويطبق القضاء الإداري على المنازعة قواعد القانون العام .
وتعد فرنسا مهد القضاء الإداري ومنها انتشر هذا النظام في الكثير من الدول كبلجيكا واليونان، ومصر، والعراق، لما يتمتع به من خصائص مهمة، فالقضاء الإداري قضاء إنشائي يسهم في خلق قواعد القانون العام المتميزة عن القواعد العادية في ظل القانون الخاص والتي يمكن من خلالها تحقيق المصلحة العامة وحماية حقوق الأفراد وحرياتهم .
وان وجود قضاء متخصص يمارس الرقابة على اعمال السلطة التنفيذية يمثل ضمانة حقيقية لحقوق الافراد وحرياتهم في مواجهة تعسف الادارة، وتتجلى اهمية وجود قضاء اداري متخصص للفصل في المنازعات الادارية في ان رقابة القضاء على اعمال الادارة تعتبر الجزاء الاكبر لمبدأ الشرعية والضمانة الفعالة لسلامة تطبيق القانون والتزام حدودة وبه تكتمل عناصر الدولة القانونية وحماية حقوق وحريات الافراد من جور وتعسف الادارة.
ولا شك في أن نظام القضاء المزدوج كان قد نشأ أساسا على مبدأ الفصل بين السلطات ومن مقتضاه منع القضاء العادي من النظر في المنازعات التي تكون الإدارة طرفاً فيها احتراماً لاستقلال السلطة التنفيذية، وهو ما وفر للقضاء الإداري الكثير من الاستقلال والخصوصية يناسب وظيفته في الفصل بالمنازعات الإدارية وإنشاء قواعد القانون الإداري المتميزة أصلا عن قواعد القانون الخاص
وقد اتسم القضاء الإداري بسرعة الفصل في المنازعات الإدارية و البساطة في الإجراءات ضماناً لحسن سير المرافق العامة، الأمر الذي تمليه طبيعة المنازعات الإدارية وتعلقها بالمصلحة العامة غالباً.
وتعد محكمة القضاء الاداري في العراق التي تم انشائها بصدور القانون رقم 106 لسنة 1989 (قانون التعديل الثاني لقانون مجلس شورى الدولة رقم 65 لسنة 1979 ) ركناً مهماً من اركان احترام القانون فتختص بالنظر في صحة الاوامر والقرارات الادارية التي تصدر عن الموظفين والهيئات في دوائر الدولة والتعويض عنها.
فقد ورد في المادة السابعة / ثانياً من القانون اعلاه:
(( يعتبر من اسباب الطعن بوجه خاص ما يلي:-
1- ان يتضمن الامر او القرار خرقاً او مخالفة للقانون او الانظمة والتعليمات.
2- ان يكون الامر او القرار قد صدر خلافاً لقواعد الاختصاص او معيباً في شكله.
3- ان يتضمن الامر او القرار خطأ في تطبيق القوانين او الانظمة او التعليمات او تفسيرها او فيه اساءة او تعسف في استعمال السلطة ويعتبر في حكم القرارات او الاوامر التي يجوز الطعن فيها رفض او امتناع الموظف او الهيئات في دوائر الدولة والقطاع الاشتراكي عن اتخاذ قرار او امر كان من الواجب عليه اتخاذه قانوناً )).
الا انه وجه إلي نظام القضاء المزدوج بعض النقد من حيث أن وجود جهتين قضائيتين في الدولة يؤدي من جانب إلي تعقيد في الإجراءات وإرباك الأفراد في اختيار جهة التقاضي ويؤدي من جانب آخر إلي تنازع في الاختصاص القضائي بين القضاء العادي والقضاء الإداري.
إلا أن هذه المشكلة أمكن حلها عن طريق إنشاء مرجع للفصل في تنازع الاختصاص سواء أكان التنازع إيجابيا أم سلبياً . وفي فرنسا تم إنشاء محكمة تنازع الاختصاص التي تعد مكملة لنظام القضاء المزدوج، وتعمل على فض التنازع على الاختصاص أو التعارض بين الأحكام (
كذلك فان المشرع المصري عهد إلي المحكمة الدستورية العليا المنشأة بموجب القانون رقم 48 لسنة 1979. حسم مشكلة تنازع الاختصاص، حيث تنص المادة 25/2 على أن تختص المحكمة "……… الفصل في تنازع الاختصاص بتعين الجهة المختصة من جهات القضاء أو الهيئات ذات الاختصاص القضائي كما تختص بالفصل في النزاع الذي يقوم بشأنه تنفيذ حكمين نهائيين صادر أحدهما من أية جهة من جهات القضاء أو هيئة ذات اختصاص قضائي والأخرى من جهة أخرى".