المكفرات لما بينهن
الحمد لله الملك الوهاب، غافر الذنب وقابل التوب شديد العقاب، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين وعلى آله وصحبه أجمعين..
أما بعد:
فإن البشر يقعون في الخطأ، ومن فضل الله عليهم أنه جعل لهم مواسم يتزودون فيها من الطاعات، ويقلعون عن السيئات؛ فيمتن الله عليهم بمغفرة الزلات، وتكفير الخطيئات، بل إنه هم صدقوا في التوبة فإن الله يبدل السيئات حسنات، وهذه المواسم منها ما هو يومي، ومنها ما هو أسبوعي، ومنها ما هو سنوي
فاليومي: " الصلوات الخمس"
والأسبوعي: يوم الجمعة
والسنوي: شهر رمضان
فلا إله إلا الله ما أكرم الله على عباده، وقد ثبت بذلك الحديث الذي أخرجه الإمام مسلم في صحيحه عن أبي هريرة -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كان يقول:
(الصلوات الخمس، والجمعة إلى الجمعة، ورمضان إلى رمضان؛ مكفرات ما بينهن إذا اجتنبَ الكبائر).
شرح الحديث:
هذا حديث عظيم فيه بيان فضل هذه الثلاث العبادات العظيمة لما لها عند الله من المنزلة العالية، وثمراتها لا تعدّ ولا تحصى، ومن ذلك أنها مكفرة لما بينها من صغائر الذنوب.
الكفارة الأولى: الصلوات الخمس:
قوله: (الصلوات الخمس) المعروفة التي فرضها الله على عباده في كل يوم وليلة، وهي: الظهر والعصر والمغرب والعشاء والفجر، ودليل أنها خمس صلوات ما جاء في الحديث الذي أخرجه البخاري ومسلم وهذا لفظ البخاري عن ابن عباس -رضي الله عنهما- أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث معاذاً -رضي الله عنه- إلى اليمن فقال: (ادعهم إلى شهادة أن لا إله إلا الله وأني رسول الله، فإن هم أطاعوه لذلك فأعلمهم أن الله قد افترض عليهم خمس صلوات في كل يوم وليلة...) الحديث..
ويدل على أنها لم تفرض علينا سوى هذه الخمس ما جاء في الحديث الذي أخرجه البخاري ومسلم عن طلحة بن عبيد الله قال: جاء رجل إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من أهل نجد، ثائر الرأس، يسمع دوي صوته ولا يفقه ما يقول، حتى دنا فإذا هو يسأل عن الإسلام، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (خمس صلوات في اليوم والليلة) فقال: هل علي غيرها؟ قال: (لا، إلا أن تطوع) الحديث..
هذه الصلوات الخمس إذا حافظ عليها المسلم والمسلمة في وقتها مع مراعاة شروطها وأركانها وواجباتها ومستحباتها، وكان الرجل محافظاً عليها في المسجد مع جماعة المسلمين حيث ينادى بها فإن الله يمتن ويتفضل عليه بمغفرة كل ذنب ارتكبه ما بين الصلاة الأولى إلى التي تليها، فلو فرضنا أنه وقع في ذنب من صغائر الذنوب بعد أن صلى صلاة العصر فإذا جاءت صلاة المغرب فوثب إلى المسجد ليؤديها مع جماعة المسلمين بخشوع وخضوع، وقبل ذلك قد توضأ وضوءاً شرعياً سنياً على وفق ما جاءت به سنة النبي -صلى الله عليه وسلم- وليس على وفق العادة، وإنما كما توضأ النبي- صلى الله عليه وسلم- وعلم ذلك أصحابه؛ فإن الله من فضله وكرمه يغفر له ذلك الذنب الذي ارتكبه بين تلك الصلاتين.
وقد جاءت الأحاديث الصحيحة ببيان ذلك؛ فمن ذلك ما جاء في الحديث الذي أخرجه مسلم: عن حُمران مولى عثمان قال: سمعت عثمان بن عفان وهو بفناء المسجد فجاءه المؤذن عند العصر فدعا بوضوء فتوضأ ثم قال: والله لأحدثنكم حديثا لولا آية في كتاب الله ما حدثتكم إني سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: (لا يتوضأ رجل مسلم فيحسن الوضوء فيصلي صلاة إلا غفر الله له ما بينه وبين الصلاة التي تليها).
وجاء في الحديث الذي أخرجه مسلم عن أبي هريرة أنه سمع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: (أرأيتم لو أن نهرا بباب أحدكم يغتسل فيه كل يوم خمسا ما تقول ذلك يبقي من درنه؟). قالوا: لا يبقى من درنه شيئا، قال: (فذلك مثل الصلوات الخمس يمحو الله بها الخطايا)..
وأخرج مسلم أيضاً عن أنس بن مالك -رضي الله عنه- قال: كنت عند النبي -صلى الله عليه وسلم- فجاءه رجل، فقال: يا رسول الله إني أصبت حداً فأقمه علي، قال: ولم يسأله عنه؟ قال: وحضرت الصلاة، فصلَّى مع النبي -صلى الله عليه وسلم- فلمَّا قضى النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- الصلاةَ، قام إليه رجل، فقال: يا رسول الله! إني أصبت حداً فأقم فيَّ كتاب الله، قال: (أليس قد صليت معنا؟!). قال: نعم، قال: (فإن الله قد غفر لك ذنبك) أو قال: (حدك)..
فيا لفداحة المصيبة ويا لعظمة الخسارة على من فاته هذه الأجور العظيمة، والحسنات الماحية للخطيئة..
هذه الأجور العظيمة تفوت من لم يصلِ فقد خسر خسارة ما بعدها ربح، كيف لا وقد قطع صلته برب العالمين، وخرج من الملة والدين بتركه لهذه الشعيرة العظيمة من شعائر الدين كما جاءت النصوص ببيان ذلك..
الكفارة الثانية: صلاة الجمعة:
قوله: (والجمعة إلى الجمعة) أي أن من حافظ على صلاة الجمعة، وأداها كما شرع الله، مطبقاً لكل سنة نبوية جاءت في حق من يحضر الجمعة، ومجنباً لكل أمر نهت عنه السنة في حق من يجب عليه حضور الجمعة فإن الله من كرمه كذلك أنه يغفر لهذا العبد كل صغيرة من صغائر الذنوب فعلها خلال الأسبوع؛ كما جاء في الحديث السابق، وقد جاءت أحاديث أخرى بتأكيد ذلك، فقد روى مسلم وأبو داود والترمذي وابن ماجه: عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (من توضأ فأحسن الوضوء، ثم أتى الجمعة فاستمع وأنصت؛ غفر له ما بينه وبين الجمعة الأخرى وزيادة ثلاثة أيام، ومن مسّ الحصا فقد لغا).
وروى الطبراني في الكبير من حديث أبي مالك الأشعري قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (الجمعة كفارة لما بينها وبين الجمعة التي تليها وزيادة ثلاثة أيام) وذلك بأن الله -عز وجل- قال: {مَن جَاء بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا} سورة الأنعام(160).
وعن أبي سعيد -رضي الله عنه- أنه سمع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: (خمس من عملهن في يوم كتبه الله من أهل الجنة: من عاد مريضاً، وشهد جنازة، وصام يوماً، وراح إلى الجمعة، وأعتق رقبة).
وعن يزيد بن أبي مريم -رضي الله عنه- قال: لحقني عباية بن رفاعة بن رافع -رضي الله عنه- وأنا أمشي إلى الجمعة، فقال: أبشر فإن خطاك هذه في سبيل الله، سمعت أبا عبس يقول: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (من اغبرت قدماه في سبيل الله فهما حرام على النار)..
وعن أبي أيوب الأنصاري -رضي الله عنه- قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: (من اغتسل يوم الجمعة، ومسَّ من طيب إن كان عنده، ولبس من أحسن ثيابه، ثم خرج حتى يأتي المسجد فيركع ما بدا له، ولم يؤذ أحداً، ثم أنصت حتى يصلي؛ كان كفارة لما بينها وبين الجمعة الأخرى)..
وغير ذلك من النصوص التي تدل على فضل الجمعة والمحافظة عليها وعلى واجباتها وسننها..
الكفارة الثالثة: صيام رمضان:
قوله: (ورمضان إلى رمضان) أي أن الله امتن على عباده بأن جعل لهم شهر رمضان موسماً سنوياً يتزودون فيه من الطاعات، ويغترفون فيه من الحسنات، ويتوبون فيه من الخطيئات، فيغفر الله لهم ما اقترفوه خلال السنة من صغائر الخطئيات، فمن صام رمضان إيمانا واحتساباً وقام بفعل ما أوجب الله عليه فيه وترك ما نهى الله عنه، ومع ذلك قام بفعل المندوبات والمستحبات وأكثر من نوافل العبادات، وترك المكروهات فإن الله يغفر له ما تقدم من ذنبه من صغائر الذنوب والسيئات، والله ذو الفضل العظيم..
وقد جاءت بتأكيد ذلك أحاديث كثيرة فمن ذلك ما أخرجه البخاري ومسلم وغيرهما: عن أبي هريرة -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: (من قام ليلة القدر إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه، ومن صام رمضان إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه).
وقد ورد في بعض الأحاديث مكفرات أخرى غير ما ذكر في هذا الحديث ومن ذلك العمرة، كما ثبت في البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: (العمرة إلى العمرة كفارة لما بينهما...) أي ماحية لما وقع بينهما من الذنوب الصغيرة..
الكبائر تحتاج إلى توبة خاصة:
قوله: (مكفرات ما بينهن إذا اجتنبَ الكبائر) هذا قيد مهم بين النبي -صلى الله عليه وسلم- فيه أن هذه الأعمال الصالحة تكفر صغائر الذنوب
وأما الكبائر فإنه لابد لها من توبة خاصة؛ لقوله: (إذا اجتنب الكبائر)
وفي رواية عند مسلم : (كفارة لما بينهن ما لم تغش الكبائر)
فدل هذا الحديث بمفهومه أنه إذا لم يجتنب الكبائر فإن هذه الأعمال لا تقوى على تكفير كبائر الذنوب
قال النووي -رحمه الله-:
"معناه أن الذنوب كلها تغفر إلا الكبائر فلا تغفر؛ لأن الذنوب تغفر ما لم تكن كبيرة فإن كانت لا تغفر إلا صغائره ثم كل من المذكورات صالح للتكفير فإن لم يكن له صغائر كتب له حسنات ورفع له درجات".
ومما يدل على أن هذه الأعمال تكفر الصغائر فقط، وأن الكبائر لابد لها من توبة خاصة، ما جاء في الحديث الذي أخرجه مسلم عن عثمان -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: (ما من امرئ مسلم تحضره صلاة مكتوبة، فيحسن وضوءها وخشوعها وركوعها إلا كانت كفارة لما قبلها من الذنوب ما لم يؤت كبيرة، وذلك الدهر كله).
وكذلك ما جاء في حديث سلمان الفارسي-رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (لا يتطهر رجل مسلم -يعني يوم الجمعة- ثم يمشى إلى المسجد ثم ينصت حتى يقضى الإمام صلاته إلا كان كفارة لما بينها وبين الجمعة التي بعدها ما اجتنبت المقتلة).
قال سلمان -رضي الله عنه-:
"حافظوا على الصلوات الخمس فإنهن كفارات لهذه الجوارح ما لم تصب المقتلة" يعني الكبيرة. وقال ابن عمر-رضي الله عنه- لرجل: "أتخاف النار أن تدخلها وتحب الجنة أن تدخلها؟" قال: نعم، قال: "بر أمك، فو الله لئن ألنت لها الكلام، وأطعمتها الطعام لتدخلن الجنة ما اجتنبت الكبائر"..
فهذه النصوص تدل على أن الكبائر لا تكفرها هذه الفرائض، بل لابد لها من توبة خاصة
قال ابن رجب-رحمه الله-:
"وأما الكبائر فلابد لها من التوبة؛ لأن الله أمر العباد بالتوبة، وجعل من لم يتب ظالما، واتفقت الأمة على أن التوبة فرض والفرائض لا تؤدى إلا بنية وقصد، ولو كانت الكبائر تقع مكفرة بالوضوء والصلاة وأداء بقية أركان الإسلام لم يحتج إلى التوبة، وهذا باطل بالإجماع-أي القول بأن هذه الأعمال تكفر الكبائر-، وأيضاً فلو كفرت الكبائر بفعل الفرائض لم يبق لأحد ذنب يدخل به النار إذا أتى بالفرائض، وهذا يشبه قول المرجئة، وهو باطل هذا ما ذكره ابن عبد البر في كتابه التمهيد، وحكي إجماع المسلمين على ذلك".
بعض فوائد الحديث:
1. فضل الصلوات الخمس، وأنها مكفرة للصغائر، وأنها تنهى عن الفحشاء والمنكر..
2. فضل الجمعة، وأنها من أفضل أيام الله، وفيها ساعة لا يوفق عبد مسلم للدعاء فيها إلا استجاب الله له.
3. فضل شهر رمضان، وأن الله يكفر به ما صغر من الذنوب.
4. هذا الحديث يدل صراحة على أن الذنوب تنقسم إلى قسمين: صغائر وكبائر، وأن المراد بتكفير هذه الأعمال هو للصغائر فقط، وأما الكبائر فلا بد لها من توبة خاصة.. وغير ذلك من صغائر الذنوب
والله المستعان، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين..
عن موقع امام المسجد
الحمد لله الملك الوهاب، غافر الذنب وقابل التوب شديد العقاب، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين وعلى آله وصحبه أجمعين..
أما بعد:
فإن البشر يقعون في الخطأ، ومن فضل الله عليهم أنه جعل لهم مواسم يتزودون فيها من الطاعات، ويقلعون عن السيئات؛ فيمتن الله عليهم بمغفرة الزلات، وتكفير الخطيئات، بل إنه هم صدقوا في التوبة فإن الله يبدل السيئات حسنات، وهذه المواسم منها ما هو يومي، ومنها ما هو أسبوعي، ومنها ما هو سنوي
فاليومي: " الصلوات الخمس"
والأسبوعي: يوم الجمعة
والسنوي: شهر رمضان
فلا إله إلا الله ما أكرم الله على عباده، وقد ثبت بذلك الحديث الذي أخرجه الإمام مسلم في صحيحه عن أبي هريرة -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كان يقول:
(الصلوات الخمس، والجمعة إلى الجمعة، ورمضان إلى رمضان؛ مكفرات ما بينهن إذا اجتنبَ الكبائر).
شرح الحديث:
هذا حديث عظيم فيه بيان فضل هذه الثلاث العبادات العظيمة لما لها عند الله من المنزلة العالية، وثمراتها لا تعدّ ولا تحصى، ومن ذلك أنها مكفرة لما بينها من صغائر الذنوب.
الكفارة الأولى: الصلوات الخمس:
قوله: (الصلوات الخمس) المعروفة التي فرضها الله على عباده في كل يوم وليلة، وهي: الظهر والعصر والمغرب والعشاء والفجر، ودليل أنها خمس صلوات ما جاء في الحديث الذي أخرجه البخاري ومسلم وهذا لفظ البخاري عن ابن عباس -رضي الله عنهما- أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث معاذاً -رضي الله عنه- إلى اليمن فقال: (ادعهم إلى شهادة أن لا إله إلا الله وأني رسول الله، فإن هم أطاعوه لذلك فأعلمهم أن الله قد افترض عليهم خمس صلوات في كل يوم وليلة...) الحديث..
ويدل على أنها لم تفرض علينا سوى هذه الخمس ما جاء في الحديث الذي أخرجه البخاري ومسلم عن طلحة بن عبيد الله قال: جاء رجل إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من أهل نجد، ثائر الرأس، يسمع دوي صوته ولا يفقه ما يقول، حتى دنا فإذا هو يسأل عن الإسلام، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (خمس صلوات في اليوم والليلة) فقال: هل علي غيرها؟ قال: (لا، إلا أن تطوع) الحديث..
هذه الصلوات الخمس إذا حافظ عليها المسلم والمسلمة في وقتها مع مراعاة شروطها وأركانها وواجباتها ومستحباتها، وكان الرجل محافظاً عليها في المسجد مع جماعة المسلمين حيث ينادى بها فإن الله يمتن ويتفضل عليه بمغفرة كل ذنب ارتكبه ما بين الصلاة الأولى إلى التي تليها، فلو فرضنا أنه وقع في ذنب من صغائر الذنوب بعد أن صلى صلاة العصر فإذا جاءت صلاة المغرب فوثب إلى المسجد ليؤديها مع جماعة المسلمين بخشوع وخضوع، وقبل ذلك قد توضأ وضوءاً شرعياً سنياً على وفق ما جاءت به سنة النبي -صلى الله عليه وسلم- وليس على وفق العادة، وإنما كما توضأ النبي- صلى الله عليه وسلم- وعلم ذلك أصحابه؛ فإن الله من فضله وكرمه يغفر له ذلك الذنب الذي ارتكبه بين تلك الصلاتين.
وقد جاءت الأحاديث الصحيحة ببيان ذلك؛ فمن ذلك ما جاء في الحديث الذي أخرجه مسلم: عن حُمران مولى عثمان قال: سمعت عثمان بن عفان وهو بفناء المسجد فجاءه المؤذن عند العصر فدعا بوضوء فتوضأ ثم قال: والله لأحدثنكم حديثا لولا آية في كتاب الله ما حدثتكم إني سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: (لا يتوضأ رجل مسلم فيحسن الوضوء فيصلي صلاة إلا غفر الله له ما بينه وبين الصلاة التي تليها).
وجاء في الحديث الذي أخرجه مسلم عن أبي هريرة أنه سمع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: (أرأيتم لو أن نهرا بباب أحدكم يغتسل فيه كل يوم خمسا ما تقول ذلك يبقي من درنه؟). قالوا: لا يبقى من درنه شيئا، قال: (فذلك مثل الصلوات الخمس يمحو الله بها الخطايا)..
وأخرج مسلم أيضاً عن أنس بن مالك -رضي الله عنه- قال: كنت عند النبي -صلى الله عليه وسلم- فجاءه رجل، فقال: يا رسول الله إني أصبت حداً فأقمه علي، قال: ولم يسأله عنه؟ قال: وحضرت الصلاة، فصلَّى مع النبي -صلى الله عليه وسلم- فلمَّا قضى النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- الصلاةَ، قام إليه رجل، فقال: يا رسول الله! إني أصبت حداً فأقم فيَّ كتاب الله، قال: (أليس قد صليت معنا؟!). قال: نعم، قال: (فإن الله قد غفر لك ذنبك) أو قال: (حدك)..
فيا لفداحة المصيبة ويا لعظمة الخسارة على من فاته هذه الأجور العظيمة، والحسنات الماحية للخطيئة..
هذه الأجور العظيمة تفوت من لم يصلِ فقد خسر خسارة ما بعدها ربح، كيف لا وقد قطع صلته برب العالمين، وخرج من الملة والدين بتركه لهذه الشعيرة العظيمة من شعائر الدين كما جاءت النصوص ببيان ذلك..
الكفارة الثانية: صلاة الجمعة:
قوله: (والجمعة إلى الجمعة) أي أن من حافظ على صلاة الجمعة، وأداها كما شرع الله، مطبقاً لكل سنة نبوية جاءت في حق من يحضر الجمعة، ومجنباً لكل أمر نهت عنه السنة في حق من يجب عليه حضور الجمعة فإن الله من كرمه كذلك أنه يغفر لهذا العبد كل صغيرة من صغائر الذنوب فعلها خلال الأسبوع؛ كما جاء في الحديث السابق، وقد جاءت أحاديث أخرى بتأكيد ذلك، فقد روى مسلم وأبو داود والترمذي وابن ماجه: عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (من توضأ فأحسن الوضوء، ثم أتى الجمعة فاستمع وأنصت؛ غفر له ما بينه وبين الجمعة الأخرى وزيادة ثلاثة أيام، ومن مسّ الحصا فقد لغا).
وروى الطبراني في الكبير من حديث أبي مالك الأشعري قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (الجمعة كفارة لما بينها وبين الجمعة التي تليها وزيادة ثلاثة أيام) وذلك بأن الله -عز وجل- قال: {مَن جَاء بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا} سورة الأنعام(160).
وعن أبي سعيد -رضي الله عنه- أنه سمع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: (خمس من عملهن في يوم كتبه الله من أهل الجنة: من عاد مريضاً، وشهد جنازة، وصام يوماً، وراح إلى الجمعة، وأعتق رقبة).
وعن يزيد بن أبي مريم -رضي الله عنه- قال: لحقني عباية بن رفاعة بن رافع -رضي الله عنه- وأنا أمشي إلى الجمعة، فقال: أبشر فإن خطاك هذه في سبيل الله، سمعت أبا عبس يقول: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (من اغبرت قدماه في سبيل الله فهما حرام على النار)..
وعن أبي أيوب الأنصاري -رضي الله عنه- قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: (من اغتسل يوم الجمعة، ومسَّ من طيب إن كان عنده، ولبس من أحسن ثيابه، ثم خرج حتى يأتي المسجد فيركع ما بدا له، ولم يؤذ أحداً، ثم أنصت حتى يصلي؛ كان كفارة لما بينها وبين الجمعة الأخرى)..
وغير ذلك من النصوص التي تدل على فضل الجمعة والمحافظة عليها وعلى واجباتها وسننها..
الكفارة الثالثة: صيام رمضان:
قوله: (ورمضان إلى رمضان) أي أن الله امتن على عباده بأن جعل لهم شهر رمضان موسماً سنوياً يتزودون فيه من الطاعات، ويغترفون فيه من الحسنات، ويتوبون فيه من الخطيئات، فيغفر الله لهم ما اقترفوه خلال السنة من صغائر الخطئيات، فمن صام رمضان إيمانا واحتساباً وقام بفعل ما أوجب الله عليه فيه وترك ما نهى الله عنه، ومع ذلك قام بفعل المندوبات والمستحبات وأكثر من نوافل العبادات، وترك المكروهات فإن الله يغفر له ما تقدم من ذنبه من صغائر الذنوب والسيئات، والله ذو الفضل العظيم..
وقد جاءت بتأكيد ذلك أحاديث كثيرة فمن ذلك ما أخرجه البخاري ومسلم وغيرهما: عن أبي هريرة -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: (من قام ليلة القدر إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه، ومن صام رمضان إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه).
وقد ورد في بعض الأحاديث مكفرات أخرى غير ما ذكر في هذا الحديث ومن ذلك العمرة، كما ثبت في البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: (العمرة إلى العمرة كفارة لما بينهما...) أي ماحية لما وقع بينهما من الذنوب الصغيرة..
الكبائر تحتاج إلى توبة خاصة:
قوله: (مكفرات ما بينهن إذا اجتنبَ الكبائر) هذا قيد مهم بين النبي -صلى الله عليه وسلم- فيه أن هذه الأعمال الصالحة تكفر صغائر الذنوب
وأما الكبائر فإنه لابد لها من توبة خاصة؛ لقوله: (إذا اجتنب الكبائر)
وفي رواية عند مسلم : (كفارة لما بينهن ما لم تغش الكبائر)
فدل هذا الحديث بمفهومه أنه إذا لم يجتنب الكبائر فإن هذه الأعمال لا تقوى على تكفير كبائر الذنوب
قال النووي -رحمه الله-:
"معناه أن الذنوب كلها تغفر إلا الكبائر فلا تغفر؛ لأن الذنوب تغفر ما لم تكن كبيرة فإن كانت لا تغفر إلا صغائره ثم كل من المذكورات صالح للتكفير فإن لم يكن له صغائر كتب له حسنات ورفع له درجات".
ومما يدل على أن هذه الأعمال تكفر الصغائر فقط، وأن الكبائر لابد لها من توبة خاصة، ما جاء في الحديث الذي أخرجه مسلم عن عثمان -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: (ما من امرئ مسلم تحضره صلاة مكتوبة، فيحسن وضوءها وخشوعها وركوعها إلا كانت كفارة لما قبلها من الذنوب ما لم يؤت كبيرة، وذلك الدهر كله).
وكذلك ما جاء في حديث سلمان الفارسي-رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (لا يتطهر رجل مسلم -يعني يوم الجمعة- ثم يمشى إلى المسجد ثم ينصت حتى يقضى الإمام صلاته إلا كان كفارة لما بينها وبين الجمعة التي بعدها ما اجتنبت المقتلة).
قال سلمان -رضي الله عنه-:
"حافظوا على الصلوات الخمس فإنهن كفارات لهذه الجوارح ما لم تصب المقتلة" يعني الكبيرة. وقال ابن عمر-رضي الله عنه- لرجل: "أتخاف النار أن تدخلها وتحب الجنة أن تدخلها؟" قال: نعم، قال: "بر أمك، فو الله لئن ألنت لها الكلام، وأطعمتها الطعام لتدخلن الجنة ما اجتنبت الكبائر"..
فهذه النصوص تدل على أن الكبائر لا تكفرها هذه الفرائض، بل لابد لها من توبة خاصة
قال ابن رجب-رحمه الله-:
"وأما الكبائر فلابد لها من التوبة؛ لأن الله أمر العباد بالتوبة، وجعل من لم يتب ظالما، واتفقت الأمة على أن التوبة فرض والفرائض لا تؤدى إلا بنية وقصد، ولو كانت الكبائر تقع مكفرة بالوضوء والصلاة وأداء بقية أركان الإسلام لم يحتج إلى التوبة، وهذا باطل بالإجماع-أي القول بأن هذه الأعمال تكفر الكبائر-، وأيضاً فلو كفرت الكبائر بفعل الفرائض لم يبق لأحد ذنب يدخل به النار إذا أتى بالفرائض، وهذا يشبه قول المرجئة، وهو باطل هذا ما ذكره ابن عبد البر في كتابه التمهيد، وحكي إجماع المسلمين على ذلك".
بعض فوائد الحديث:
1. فضل الصلوات الخمس، وأنها مكفرة للصغائر، وأنها تنهى عن الفحشاء والمنكر..
2. فضل الجمعة، وأنها من أفضل أيام الله، وفيها ساعة لا يوفق عبد مسلم للدعاء فيها إلا استجاب الله له.
3. فضل شهر رمضان، وأن الله يكفر به ما صغر من الذنوب.
4. هذا الحديث يدل صراحة على أن الذنوب تنقسم إلى قسمين: صغائر وكبائر، وأن المراد بتكفير هذه الأعمال هو للصغائر فقط، وأما الكبائر فلا بد لها من توبة خاصة.. وغير ذلك من صغائر الذنوب
والله المستعان، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين..
عن موقع امام المسجد