السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
بـســم الله الـــرحـمــن الرحيـــــم
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
عــن أبي سعيد رضي الله عنه قال قال رسول
الله صلّى الله عليه وسلم :
"ومن يستعفف يُعفّه الله ومن يستغن يُغنه الله ومن يَتَصَبَّر يُصّبِّره
الله وما أعطِيَ أحد عطاء خيراً وأوسع من الصبر" رواه البخاري
هـذا الحديث اشتمل عــلى أربع جمل جامعــة نافعة:
إحداها:
قوله"ومن يستعفف يعفه الله"
والثانية : قـوله " ومــــن يستغن يغنه الله "
وهاتان الجملتان متلازمتان، فإن كمال العبـد فـي إخلاصه لله رغبة ورهبة وتعلقـاً به دون المخلوقين ، فعلـيه أن يسعى لتحقيق هــــــذا الكمال ويعمل كـل سبب يوصله إلى ذلك حتى يكون عبداً لله حقاً حُرّاً من رق المخلوقين .
وذلك بأن يجاهد نفسه على أمرين:
انصرافهم عــن التعلق بالمخلوقين بالاستعفاف عما في أيديهم .
فلا يطلبه بمقاله ولا بلسان حاله .
ولهذا قال صلّى الله عليه وسلم لعمر :
"ما جاءك مـن هذا المــال وأنت غيـــر مشرف ولا سائل
فخذه . ومالا فلا تتبعه نفسَك " رواه مسلم ،
فقطع الإشراف فـي القلب والسؤال باللسان ،
تعففاً وترفعاً عــن مِنن الخـلق وعـــن تعلق القلب بهم ، سبب قوي لحصول العفة.
وتمــام ذلك : أن يجــاهـد نفسه عــلى الأمــر
الثاني : وهو الاستغناء بالله والثقة بكفايته،
فإنه من يتوكـل على الله فهو حسبه . وهذا
هو المقصود . والأول وسيلة إلى هذا.
فإن مـن استعف عما في أيدي الناس وعمـــا
يناله منهـم : أوجب لـــه ذلك أن يقوى تعلقه
بالله ورجاؤه وطمعه فـي فضل الله وإحسانه،
ويحسن ظنه وثقته بربه .
والله تعــالى عنـد حسن ظـن عبده بـه إن ظن خيـراً فلـه ،
وإن ظـن غيـره فله . وكل واحد من الأمريـن يمـد
الآخـر فيقـويه . فكلما قوي تعلقه بالله ضعف
تعلقـه بالمخلوقين وبالعكس .
ومــن دعـــاء النبي صلّى الله عليه وسلم
" اللهم إني أسألك الهدى والتقى والعفاف والغنى " رواه مسلـم
فجمــع الخير كلـه في هذا الدعاء .
فالهدى : هــو العلـم النافع .
والتقى : العمل الصالــح،
وتــرك المحرمات كلها . هـذا صلاح الديــن.
وتمام ذلك بصلاح القلب وطمأنينته بالعفاف
عن الخلق والغنى بالله.
ومن كان غنياً بالله فهو الغنـي حقاً ، وإن قلت حواصله .
فـليـس الغنى عــن كثـرة العَرَض إنمــا الغنى
غنى القلب .وبالعفاف والغنى يتم للعبد الحياة
الطيبة والنعيم الدنيوي والقناعة بما آتاه الله.
والثالثة : قوله : "ومن يتصبر يصبـــره الله " .
ثـم ذكـر في الجملة الـــرابعة : أن الصبر إذا أعطاه الله العبد فهــو أفضل العطاء
وأوسعه وأعظمه ، إعانة على الأمور .
قـال تعـالى :
( وَاسْتَعِينُواْ بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ ) البقرة ,
أي: علـى أموركم كلها .
والصبر كسائر الأخلاق يحتاج إلى مجاهدة للنفس وتمرينها .
فلهـذا قال " ومن يتصبر " أي : يجاهد نفسه على الصبر
" يصبره الله " ويعينه وإنمـــا كــان الصبر أعظـــم العطايا ،
لأنـه يتعلق بجميـع أمـور العبد وكمالاته وكــل حالة من أحواله
تحتاج إلى صبر . فـإنـه يحتاج إلــى الصبر
على طاعة الله ، حتى يقوم بها ويؤديها .
وإلـى صبر عــن معصية الله حتـى يتركها لله
وإلـى صــبــر عــلى أقدار الله المؤلمة ،
فــلا يتسخطها . بــل إلــى صبــر عــلـى نعــم الله
ومحبوبات النفس ، فـلا يـــدع النـفس تمرح
وتفرح الفرح المذموم، بل يشتغل بشكر الله،
فهو في كل أحواله يحتاج إلى الصبر .
وبالصبر ينال الفلاح . ولهــذا ذكـر الله أهــل
الجنـة فـقــال : ( وَالمَلاَئِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِم مِّن
كُلِّ بَابٍ ، سَلاَمٌ عَلَيْكُم بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى
الدَّارِ )
وكــذلك قـولـه ( أُوْلَئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِمَـا صَبَرُوا ) ,
فهــم نـالوا الجنة بنعيمها ، وأدركوا المنازل العالية بالصبر .
ولكن العبد يسأل الله العافية من الابتلاء الذيلا يدري ما عاقبته ،
ثم إذا ورد عليه فوظيفتهالصبر .
فالعافية هي المطلوبة بالأصالة فــي
أمور الابتلاء و الامتحان .
و الصبر يؤمر به عند وجود أسبابه ومتعلقاته والله هو المعين
وقد وعد الله الصابرين في كتابه وعلى لسان
رسوله أمور عالية جليلة . وعدهــم بالإعانة
فـي كل أمورهم وأنه معهم بالعناية والتوفيق
و التسديد و أنــه يحبهــم ويثبـت قــلـوبـهــم
وأقدامهم ويلقي عليهم السكينة والطمأنينة ،
ويسـهــل لهـــم الطاعات ، ويحفظـهـــم مــن
المخالفات ، ويتـفـضــل عــلـيهــم بالصلوات
والرحمــة والهــدايـة عنــد المصيبات .
والله يرفعهـــم إلـــى أعــلى المقامات فــي الدنيـــا والآخـرة .
وعدهم النـــصــر ، و أن ييسرهم لليسرى ويجنبهم العسرى
ووعدهم بالسعادة والفلاح والنجاح ، وأن يوفيهم أجرهم بغيـر حساب ،
وأن يخلف عليهم في الدنيا أكثر مما أخذ منهم من محبوباتهم و أحسن ،
يعوضهم عن وقوع المكروهات عوضـــا عاجلا يقابل
أضعاف أضعاف مـا وقــع عليهم من كريهة
و مصيبة وهو فــي ابتدائه صعــب شديد .
وفي انتهائه سهل حميد العــواقـب .
" بهجــة قلـوب الأبـرار وقرة عيون الأخيار في شرح
جوامع الأخبار"للشيخ عبد الرحمن السعدي "